لمن يريد اقتناء الموسوعة العلمية للرموز الاثريه من تأليف الدكتور غالينوس ان يبادر الى مراسلة الدكتور غالينوس على الخاص


استرجاع كلمة المرور طلب كود تفعيل العضوية تفعيل العضوية قوانين المنتدى
العودة   منتدى كنوز ودفائن الوطن > المنتديات الادبيه > قسم القصص و الحكاوي و الروايات > القصص والحكاوى

اعلانات

  انشر الموضوع
إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 10-03-2011, 06:00 PM   المشاركة رقم: 1
المعلومات
الكاتب:
إبن الأكرمين
اللقب:
مدير عام سابق
الرتبة


البيانات
التسجيل: Jan 2011
العضوية: 4124
المشاركات: 2,093 [+]
بمعدل : 0.43 يوميا
اخر زياره : [+]

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
إبن الأكرمين غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

المنتدى : القصص والحكاوى
دم لفطير صهيون

نحن في دمشق في أوائل عام 1840م، بعد أن احتلت قوات محمد علي باشا الشام بقيادة ولده إبراهيم باشا، ذلك القائد المحنك، وهاهي دمشق تخضع للحكم المصري، وواليها من قِبَل الجيش المنتصر هو الرجل اليقظ شريف باشا. وليس في دمشق كلها من لا يعرف تلك الحارة الشهيرة المميزة، حارة اليهود. فإذا سرت في هذه الحارة، وقعت عيناك على رجال اليهود ونسائهم وأطفالهم، وعلى بيوتهم المتلاصقة المزدوجة: الأبواب تبدو صغيرة قليلة الارتفاع، لا يكاد المرء يدخلها إلا منحنياً، ولا تتسع لأكثر من واحد، وكأنها أبواب الدهاليز الغامضة، والباب يقودك إلى ممر ملتوٍ كالأفعى، يفضي إلى باحة واسعة تنتثر فيها الأغنام والطيور، والأرانب، وبعض الحشائش، وقد تجد أشجاراً مثمرة كالتين والعنب، ومن آن لآخر ترى حانوتاً لبيع الخبز والمأكولات، وآخر يتلألأ فيه بريق الذهب والجواهر، وثالثاً يكتظ بأنواع الأقمشة والمنسوجات ذات الألوان الزاهية، وقد تجد بالقرب منه خاناً كبيراً لبيع الأخشاب، وهناك قرب النهاية تجد (كنيس الإفرنج) الذي يتردد عليه اليهود لتأدية شعائر دينهم في حرية تامة، وإلى جوار الكنيس يقبع محل (سليمان الحلاق) الذي يتردد عليه كثير من الزبائن اليهود وغير اليهود، وسليمان ذرب اللسان، حلو النكتة، يقلّد الأوربيين في طريقة قص الشعر، وتنظيم الخصلات، وتنميق السوالف، وسليمان مشهور أيضاً بعملية (فصد الدم) بارع في تأديتها، فكثيراً ما تراه يغلق دكانه ويحمل حقيبته، ويذهب إلى أحد البيوت لإجراء فصد الدم لبعض المرضى، وسليمان يهمه بالدرجة الأولى ألا يخرج من أي بيت خاوي الوفاض، ومن ثم تراه يؤكد لكل مريض أن فصد الدم ضروري له، حتى ولو كان هذا المريض مصاباً بفقر الدم والهزال، أو كان يعاني من إسهال حاد. إن سليمان يحب المال ويحب منظر الدماء أيضاً، والفصد يحقق له الهدفين معاً، وسليمان سمح الوجه، باسم دائماً لا تكاد تعبيرات وجهه تشف عما يعتمل في داخله.



وفي حارة اليهود بدمشق تقيم أسرة (هراري) ذات الثراء الفاحش والتجارات الواسعة والصيت الذائع. إن منزل (داود هراري) يعرفه الجميع، فهو بناء جديد يوحي بالعظمة والغنى والنفوذ، نوافذه الزجاجية ذات الستائر الحريرية تجذب إليه الأنظار، وطلاؤه الناصع البياض يوحي بالإعجاب والمتعة، حتى النسوة اللاتي تظهر وجوههن من النوافذ أو فرجات الأبواب يتمتعن بجمال فائق، وأصواتهن الرخوة الناعمة تثير خيال المراهقين، وتحرك الدماء بعنف في عروق الرجال. ومن أشهر الرجال الذين يقيمون في حارة اليهود الحاخام (موسى أبو العافية) والحاخام (موسى سلانيكلي) إنهما كثيراً ما يبدوان في الحارة وهما ذاهبان إلى الكنيس أو عائدان منه، يحوطهما الوقار والهدوء والغموض، وهي من لزوميات رجل الدين اليهودي..



وفي حارة اليهود تبدو أشياء مسلية، بل ومضحكة في بعض الأحيان. إن عشرات من الشبان (الشوام) وبعض عساكر محمد علي، يمضون في حارة اليهود يوزعون نظراتهم يميناً وشمالاً، ويحاصرون النسوة السائرات في الطريق بعيونهم النهمة الجائعة، ويطلقون كلمات الغزل الساذجة بصوت خفيض في أغلب الأحيان، ونادراً ما يقولونها بصوت مرتفع، والخجل يوشي وجوههم التي تفيض حيوية، فالشائع عندهم أن النساء اليهوديات لا يكترثن كثيراً بالآداب المرعية، ولا مانع لديهن من أن تنصب في آذانهن كلمات الإطراء والثناء على جمالهن، وعديد من الأقاصيص والحكايات يرويها المراهقون عنهن، ويبالغون في تفاصيلها، ولعل مما يقوي هذه الظنون حب اليهود للمال، ورغبتهم في الحصول عليه من أي طريق، فلا عجب أن تقع العين على أحد الشبان وهو يعبث بجيوبه ويحركها حتى يصدر عنها صوت ارتطام القروش ببعضها، أو رنين القطع الذهبية، ذات الصدى الساحر، وعلى الرغم من أن هذه المظاهر قد تؤذي مشاعر الرجال من اليهود إلا أنهم يغضون الطرف عنها، ويتجاهلونها تماماً، أملاً في أن يميل بعض هؤلاء على المحلات التجارية، ويشتري بعض أغراضه، ومن آن لآخر تسمع أحد تجار اليهود يدلل على بضاعته قائلاً:
(تفضلوا يا شباب... عندنا عطور فاخرة...).
(هنا أعظم الثياب الحريرية..).
(تفضلوا.. مجوهرات.. وخواتم ذهبية وفضية..).
وغيرها من الأشياء التي تصلح كهدايا.


وقد يتقابل أحد الشبان صدفة مع إحدى اليهوديات وهي تشتري بعض ما تحتاج إليه من بضائع، فترمقه بنظرة عابرة، فتغذي تلك النظرة خياله بآلاف الأمنيات، وتشعل في كيانه الرغبات الجامحة، فيمضي وراءها مسلوب الإرادة حتى يراها وهي تختفي وراء أحد الأبواب، ويبقى هو رائحاً غادياً يحلم باللقاء العامر بكل ألوان الملذات، ويظل هائماً في أحلامه حتى يحط المساء، وتنبعث أضواء المصابيح الهزيلة.
وليس في مدينة دمشق كلها من لا يعرف الأب (توما)، أو البادري توما كما يسمونه، وهو قسيس من سردينيا، إيطالي الأصل، لكنه يتمتع بالجنسية الفرنسية ويعيش في دمشق منذ أكثر من ثلاثين عاماً. لقد تخطى آنذاك الخامسة والخمسين من عمره، ومع ذلك فإن وجهه الأشقر يفيض بالحيوية والنشاط، وعينيه الصافيتين تنسكب منهما الطيبة والرضى واليقين، ولحيته الشقراء التي تناثرت فيها الشعيرات البيضاء تقطر سماحة وأمناً وثقة، الرجال يبشّون لمقدمه، ويجلّونه أشد الإجلال، والنساء ترمقنه في احترام بالغ، والأطفال يمتزج حبهم له بشيء قليل من الخوف لأنه يعطيهم دائماً الطعم الواقي ضد الجدري، حتى اليهود برغم عدائهم التقليدي للمسيحيين لا يشذون عن هذه القاعدة، ويبدون كثيراً من التقدير والمحبة للأب توما، بل إن اليهودي المعروف التاجر الثري (داود هراري) يُعدّ من أصدق أصدقاء الأب توما، وأخلص خلصائه، وكثيراً ما يراهما الناس جالسين معاً، يتناقشان في أمور الدين والدنيا، ويرشفان أقداح القهوة التركية، ويتبادلان المِلَح والطرائف في مودة لا مثيل لها..


ويسكن (الأب توما) – مع خادمه الوحيد إبراهيم عمار – في دير صغير، لا ثالث لهما، حياتهما هادئة بسيطة لا متاعب فيها ولا منغصات. (والأب توما) وقته موزع بين العبادة والقراءة ومعالجة المرضى، ولديه في الدير مكتبة عامرة بكتب اللاهوت والتاريخ والطب واللغة، وهو حريص على مدوامة النظر في كتب الطب، القديم والحديث، فتجد لديه كتب ابن سينا، وابن النفيس، والرازي، المترجمة عن العربية إلى اللاتينية والإنجليزية والإيطالية، كما تجد المؤلفات الحديثة في علم التشريح والحميات والأقربازين والفيزياء وغيرها، وفي مقدور الأب توما أن يعطي الناس الطعم الواقي ضد الجدري لأن هذا المرض كان كثير الانتشار في تلك الأيام، وكان يأتي على هيئة موجات وبائية عنيفة تكتسح المدن والقرى وتخلف وراءها الكثير من الشقاء والأحزان والعاهات، بل كثيراً ما كانت تترك جيشاً بأكمله مجموعةً متناثرةً من الجثث والعفن والبلاء.. والأب توما يستطيع أن يمارس بعض العمليات الجراحية الصغيرة، كأن يشق خرّاجاً أو يجبر كسراً، أو يخيط جرحاً، كما كان يداوي الكثير من الأمراض الباطنية باستعمال خلاصة الأوراق والنباتات التي يغليها فوق النار، وقد يقطر بعض المطهرات في عيون المرمدين، أو يضع بعض المراهم على رؤوس الأطفال المصابين بالقراع، وتراه في الصباح الباكر يستعد لإقامة الصلاة في الدير، فيفد إليه عديد من الناس، فيلقي مواعظه، ويؤدي الشعائر، وكان له الكثير من الأصدقاء المرموقين، ذوي المراكز والكفايات العلمية والدينية، ومن أهمهم الخواجا (سانتي) الذي يعمل صيدلياً بالمستشفى العام بدمشق، وكثيراً ما كان (سانتي) يستعير الكتب من (الأب توما)، ويقضي معه بعض السهرات الليلية، يتدارسون فيها أمور العلم والدين والسياسية. قال له سانتي ذات مساء:

- (لماذا لم تتزوج؟).

ابتسم الأب توما وقال:
- (من قال ذلك؟؟ لقد تزوجت..).

نظر إليه سانتي باهتمام وقال:
- (عهدتك تتحرى الصدق دائماً..).

هز الأب توما رأسه وقال في شيء من الشرود:
- (لقد تزوجت الحقيقة).

انفجر سانتي ضاحكاً وقال في معاتبة:
- (المرأة أقوى حقيقة في حياتنا).

- (الإنسان ليس الحقيقة كلها بل هو جزء منها.. يا صديقي العزيز سانتي.. لقد عشت لها.. للحقيقة).

همس سانتي وقد بدا الخجل على عينيه:
- (لكن المرأة حقيقة تبعث الدفء في القلوب والأرواح والأجساد..).

- (الحقيقة الكبرى دفؤها أبدي خالد).

ونظر الأب توما إلى السماء الصافية المرصعة بالنجوم المتألقة، وكان الجو بارداً وتمتم:
- (طوبى لكل الأتقياء).

تنهد سانتي وهتف:
- (إنه ضرب فريد من البطولة).

- (ماذا تقصد؟؟).

- (اغفر لي يا أبتاه.. أنا أصلي وأصوم.. لكن عطر النساء يدير رأسي، ولهذا تزوجت ولا أستطيع أن أتصور رجلاً طبيعياً بدون امرأة).

قال توما في يقين ثابت:
- (إنه حرمان بإرادتي.. لم يلزمني به أحد، وأنا لا ألزم به أحداً.. فليتزوج الرجال.. وليأت إلى الدنيا أطفال كالزهور.. لكن لابد أن يكون هناك طائفة يتفرغون لمجد الله، ويعشقون الحقيقة.. ويهبون حياتهم كاملة لها..).

وشرب الأب توما جرعة من القهوة واستطرد:
- (أنا في قمة السعادة.. حينما أتأمل الوجود.. وأفكر في عجائب مخلوقات الله.. وأندمج في هذا الكون.. وأتذكر (السيد العظيم) أهيم في عالم وردي رائع.. وأنتشي نشوة كبرى).

ثم التفت إلى سانتي قائلاً:
- (ألست معي في أن الملذات تختلف؟ هناك من يجد لذته في الطعام، وآخر يجدها في المال وجمعه، وثالث لا يستشعرها إلا في أحضان النساء.. وهكذا.. وأنا العاشق للكون وما فيه، أنا أنعم في رحاب الحقيقة الأبدية أشعر أن سعادتي لا بداية لها ولا نهاية.. وُجدَت قبل أن أولد.. وستمتد.. وتتخطى سنوات العمر.. وترافقني في الآخرة.. أتعي جيداً ما أقول يا سانتي؟؟).

هز سانتي كتفيه وقال:
- (أقرّ بعجزي..).

- (إن لك أجنحة، ولكنك تأبى أن تجربها..).

- (أية أجنحة..؟).

- (الروح تستطيع أن تخترق بها الحواجز والحجب..).

- (أنا ثقيل.. ثقيل.. يا أبتاه..).

ربت (توما) على رأسه في حنان صادق وعيناه مبللتان بالدموع وتمتم في رقة:
- (فليحرسك الله.. وليبارك مسعاك).

وسادت فترة صمت قال الأب توما بعدها:
- (الرحلة طويلة شاقة لكنها ممتعة.. ما زلت أذكر الأيام والليالي.. جزيرة ساردينيا.. ونحن أطفال.. الشاطئ الجميل.. الصغيرات اللطيفات يلعبن في المياه النقية كالأوزات ويتردد صدى ضحكاتهن البريئة في الآفاق.. وابتسامات الفتيات الجميلات في ظلال الخمائل.. كنا نأكل في نهم.. ونشرب.. ونلهو.. ونعبّ الحياة عبّاً.. كان كل شيء رائعاً وجميلاً.. ودخلت مدرسة اللاهوت.. وتفتحت عيناي على السطور الأولى من كتاب الحقيقة.. والكتب لا تضم كل شيء.. هناك أشياء كثيرة نتعلمها من التجربة وأشياء أخرى تنبثق من الذات، وينبض بها القلب.. وتشدو بها الروح، قد لا نستطيع التعبير عن هذه الأشياء مع أنها أروع ما في الحياة والوجود.. لكنها موجودة.. وأشعر بها جيداً.. هي زادي وحياتي.. لذا تراني سعيداً وأشعر أكثر بالسعادة حينما أراني وقد اجتزت تلك المسافات الشاسعة في عالم النفس الرحب الكبير.. آه يا سانتي.. أنت يا سانتي لا تشعر بما يعمر قلبي من مجد وروعة).
لا يستطيع أحد أن ينكر ما لداود هراري من بطش ونفوذ وشخصية مرموقة، هو بمقاييس رجال الدين اليهودي من المتدينين الأوائل الذين يحافظون على الصلاة، ويهتمون بالشعائر، ويظهرون احتراماً وتقديراً بالغين نحو الحاخامات، وكثيراً ما أجرى الترميمات اللازمة للمعبد اليهودي أو أعاد صباغته بالألوان الزاهية من عام لآخر، وهو بمقاييس رجال التجارة مراوغ كبير وذو حاسة تجارية لا تخيب، كما لو كان له قرنا استشعار يعرف بهما ما سوف يجد من أزمات في بعض أنواع البضائع، فتراه يخزن بعض المواد، أو يجمعها من التجار ثم يخفيها تماماً، وعندما تستحكم الأزمة، وتشتد الحاجة إليها، يظهرها بمقدار، ويوزعها في السوق السوداء، فيبيعها بأغلى الأسعار، وهو بمقاييس رجال النفوذ صاحب مركز قوي تربطه برجال القنصليات روابط وثيقة، وقريب من الحكام، ويستطيع الحصول على كل ما يستعصي عليه نواله بماله، وهو رجل أسرة يقبض على زمام الأمور بيد حديدية، فلا تستطيع زوده الجميلة (كاميليا) ولا أولاده أو خدمه، أن يحيدوا عن السياسة التي يرسمها قيد أنملة، فهو على ما يظهر رجل ناجح موهوب ينسق حياته العامة والخاصة تنسيقاً يكاد يكون آلياً، لكن أحداً لم يكن يعلم أن زوجه (كاميليا) كثيراً ما تضيق بهذا النظام الآلي الصارم، بل وتشمئز منه، لكنها في نفس الوقت كانت مهيضة الجناح، مستسلمة للأمر الواقع، لا تستطيع أن تغير من الأمر شيئاً، وكانت تكتم في نفسها تمردها وحنقها، وكانت صغيرة السن بالنسبة له، فهو فوق الخامسة والخمسين، أما هي فلم تكن قد بلغت الثلاثين من عمرها، وعندما كان داود يدعو علية القوم إلى بيته كانت زوجه كاميليا تجلس وسط النسوة متألقة كالزهرة الندية، عيناها تنبضان بسحر جذاب فاتك، وعليها مسحة من حزن لا يكاد يبدو، يزيد رونقها بهاء وفتنة، وكان كل واحد من الحضور يتمنى أن يراقصها أو يجاذبها أطراف الأحاديث، لكنها على ما يبدو كانت خجولاً لم تتعود هذه الجرأة وذلك الاختلاط برغم الحفلات المتكررة. ولم يكن داود ليسمح لها بأن تغادر البيت وحدها، ولا تذهب إلى بيت أبيها أو جيرانها أو صديقاتها إلا في صحبته، وكان ينبّه عليها قبل كل حفلة أو مأدبة بألا تسمح لأحد بمراقصتها أو بالإطالة في الحديث معها، مهما كانت شخصيته، حتى ولو كان سفيراً من السفراء، أو قنصلاً من القناصل، والغريب أنها بالرغم من حنقها عليه كانت تخافه، وتعمل له ألف حساب، كان ظاهرها في الواقع يتسم بالطاعة والرضى والحب لزوجها، وكانت أعماقها تكتظ بكراهية زائدة له ولأسلوبه في الحياة، لكن السر الخطير الذي لم يكن يعلمه أحد هو صلتها المريبة بخادم الأسرة (مراد الفتال)..


ومراد هو محل ثقة زوجها، ويعرف الكثير عن أسرار سيده وصفقاته المريبة، بل يعرف أشياء قد لا تعرفها كاميليا نفسها..


إن مراد هو خادمه الأمين الذي يثق به ثقة مطلقة، والحق يقال فإن مراد كان مخلصاً لسيده داود، ملتزماً بالآداب المرعية، وكان متعلقاً بفتاة يهودية تقوم هي الأخرى بالخدمة في بيت داود هراري، وكان كل أمله أن يتزوجها، اسمها (أستير) لم تتخط التاسعة عشرة، وهو يكبرها بخمس سنوات، ويبدو أن سيدتها قد أدركت العلاقة الوليدة بينها وبين زميلها في الخدمة مراد، فاشتعل قلبها بالحقد عليها، وكثيراً ما همت بطردها لكنها وقفت عاجزة أمام هذه العقدة، لأن طردها ربما يؤدي إلى فرار مراد الفتال، وكاميليا لا تريد ذلك ولا تطيقه، بل لعل تهور كاميليا في مثل هذه الحالة قد يكشف ما خفي، وينجلي عن فضيحة كبرى، ولذا كانت (كاميليا) مضطرة لأن تخفض من حدة غضبها وغيرتها، وتسوس الأمور بطريقة عاقلة، وتتحمل وجود أستير، ويكفي أن مراد الفتال طوع بنانها..


قال داود:
- (لسوف أرحل اليوم إلى بيروت يا كاميليا).

وعلى الرغم من أنها كثيراً ما تطرب لسفرياته، وتتمنى أن تتكرر دائماً، إلا أنها هتفت في دهشة:
- (إنك كثير الأسفار.. وتتركني وحدي دائماً أعاني الوحدة والعذاب..).

نظر إلى وجهها الحزين، وعينيها الدامعتين، وتمتم:
- (أتحبينني لهذه الدرجة؟؟).

بان الغضب على ملامحها، ونفرت منه في احتجاج، وأعطته ظهرها وهي تقول:
- (يا لك من ظالم!! ألا تعرف حبي بعد هذه السنوات الطوال من الزواج؟؟ ثلاث عشرة سنة يا داود، إنها عمر..).
كانت في قرارة نفسها تشعر بأن أيامها معه تشبه أيام السجن برهبته وعذابه وملله..

تنهد في حسرة وتمتم:
- (رجل في الخامسة والخمسين وأنت في عز شبابك..).

التفتت إليه، وشبكت يدها خلف عنقه كطفلة تتعلق بأبيها وقالت وبراءة الأطفال في عينيها الجميلتين:
- (إن مجرد وجودك إلى جواري يبهج قلبي.. علاقتنا فوق الماديات والمطالب الجسدية..).


هذه الكلمات أزعجته، إنه يشم فيها معنى العزاء والتماس المعاذير التافهة لضعف قوته، وانحسار ظل شبابه.. شبابه الذي يعاني آلام الغروب، ويرتجف من هول الشتاء.. شتاء العمر القاسي الذي لا يرحم.. وتمتمت (أنت لم تزل قوياً..).


هي تكذب وهو يعلم ذلك جيداً، وكان حريصاً على أن تنتهي هذه المناقشة بأسرع ما يمكن، لذا قال وابتسامة صفراء ترتسم على فمه:
- (لا تحزني يا حبيبتي.. لن أبقى في بيروت أكثر من أسبوع.. ولسوف أعود بعدها أكثر صحة وعافية..).


وجفف عرق جبينه قائلاً:
- (هناك في بيروت نوع من البذور يقولون إن طحنه ومزجه باللبن وشربه في الصباح قبل الفطور يقوي الهمة، ويعيد الشباب..).

تضرجت وجنتاها البضتان بالخجل وتمتمت:
- (كل ما أريده أن تأتي إليّ سليماً معافى.. أريدك أنت وكفى..).

وشرد بضع لحظات وقال:
- (قال لي الحاخام (موسى أبو العافية) أنه لن يردّ إليّ قوّتي ويرضي ربي، إلا الفطير المقدس، فطير عيد الفصح..).

ارتجفت مفاصلها، وشحب وجهها، وتشبثت به قائلة:
- (بالله عليك لا تطرق هذا الحديث.. إنني أخاف..).

قال في إصرار وعنف:
- (تلك أوامر (التلمود).. ودم المسيحي الممزوج بالدقيق له فعل السحر يا امرأة..).

ثم عاد يقول:
- (ويحي!! ماذا قلت؟؟ ما كان يجب أن أتفوه بمثل هذا الكلام.. إنه خطير.. خطير للغاية..).

قالت كاميليا متوسلة:
- (وأنا لا أريد أن أسمعه منك..).

ليلك يا دمشق تسكره الظلمات، وآلامك يا دمشق ترقبها النجوم الساهرة في طول السماء وعرضها، وذكريات الأمس يا مدينة التاريخ العظيم تفيض بالدماء والجراح والمعارك التي لم يزل يتردد صداها عبر السنين، والعسس يا دمشق يجوبون طرقاتك الخالية المقفرة في صمت ويقظة، مخافة أن ترتفع رأس باعتراض، أو تنطلق صيحة تطالب بالحرية، أو يثب فارس بمدفعه يبدد السكون، ويحيي الموات، ويشعل الحرب من جديد، الغزو والامتيازات الأجنبية يثقلان على كاهلك، ويحجبان وجهك المشرق العريق ويمرغانه في التراب، لكنكِ لم تستسلمي للفناء ولم ترضخي للذل.. لأنكِ يا دمشق من قديم قلعة الأحرار والإيمان.. ومنارة الإسلام والبطولات..


دمشق نائمة في الظاهر، لكن عيونها مسهدة، والدموع تنسكب على الخدود، والمسجد الأموي قد أوى إليه بعض العباد يضرعون إلى الله، ويطيلون السجود والركوع، ووالي دمشق من قِبَل محمد علي باشا (شريف باشا) ينام في قلعته مطمئن البال، هادئ النفس، بعد أن انكسرت حدة المقاومة وهُزمت الجيوش المحلية والتركية، وتمزقت السكينة، واندحر الأمن، لكن حارة اليهود لها شأن آخر، لا يضيرهم أن يأتي حاكم، أو أن يذهب حاكم، فكل حاكم يأتي يدينون له بالطاعة والولاء، ويبذلون له الذهب والنساء، ويتطوعون بإفشاء أسرار المناضلين، ويشون بأعدائهم في الدين، أو منافسيهم في التجارة، أو مناوئيهم في الحرب الخفية.. الدس.. السموم.. الوقيعة هي أسلحتهم التي لم تتغير ولم تتبدل على مدار السنين..


وبيت (داوود هراري) يقبع تحت الظلمات ببنائه الشاهق.. الكل نائم.. الخدم ينكمشون من شدة البرد في حجرة ضيقة للرجال، وأخرى للنساء، وأطفال (هراري) يغطون في سبات عميق، لكن هناك حيَّة تسعى.. هاهي (كاميليا) تتسلل إلى حجرة في آخر الدهليز الأرضي، لا يقربها أحد.. وللدهليز باب صغير في الإمكان إغلاقه بإحكام، وفي نهاية الدهليز حجرة صغيرة قذرة تمتلئ بالأتربة وبعض المخطوطات القديمة والكتب المقدسة، وغيرها من طبعات التلمود الصفراء الرثة وبعض الأغراض الأخرى..


كانت كاميليا تلبس ثوباً شفافاً يبرز مفاتن جسدها، وفي يدها شمعة يتحرك لهبها المرتجف فيرسم على الحيطان ظلالاً تبدو كالأشباح الخرافية، وأخذت كاميليا تنظر يمنة ويسرة، وتنتقل في قلق من مكان إلى مكان، وأخيراً وضعت الشمعة على رف صغير في ركن من أركان الحجرة، الانتظار يرهق أعصابها، ويكاد يحطمها، ترى لماذا لم يأتِ؟؟ أقسمت بينها وبين نفسها أن تدمره.. تسحقه.. تقضي عليه قضاء مبرماً إذا أخلف وعده ولم يحضر.. اللحظات القصار تبدو كدهر طويل.. وهي تريد أن تفعل شيئاً كي يبدد سأمها وضيقها وتهدئ من خفقات قلبها، ونظرت إلى جوارها فوجدت كتاباً قديماً يغطيه الغبار فتناولته وأخذت تقرأ: (الطور يورد).


هو كتاب ألّفه العالم الرباني يعقوب، وهو أحد أئمة اليهود وآراؤه معتبرة في المسائل الدينية، وجاء في البند 158 إنه (محرم على اليهودي أن ينجِّي أحداً من بقية الأمم من البئر التي يكون وقع فيها، وعلى الطبيب اليهودي ألا يداوي أمميَّا (غير إسرائيلي) مطلقاً ولو بالأجرة إلا إذا أراد ضرره أو الانتفاع بماله، فإذا كان مبتدئاً في هذا الفن، فليتعلم بمداواة باقي الأمم، ويجوز إجراء المعالجة مجاناً في هذه الحالة..).


تضايقت كاميليا من هذه الكلمات، فقذفت بالكتاب بعيداً وعادت تنظر إلى باب الدهليز الضيق المظلم، وتحاول جاهدة أن تتسمع وقع خطوات الرجل القادم، لكن أحداً لم يأت.. لقد مضى على الموعد أكثر من نصف ساعة، ما معنى ذلك؟ إنها تكاد تجن.. لا يمكن أن يخدعها هكذا.. لو فعل ذلك لذبحته، هي على استعداد أن ترتكب أية حماقة من أجل تحقيق رغباتها الآثمة، وإشباع ظمئها وجوعها. وبطريقة لا شعورية تناولت مخطوطاً آخر مكتوباً بخط اليد الأسود، وأخذت تقرأ دون أن تدرك معنى لما تقرأ: (لا تعتبر اليمين التي يقسم بها اليهودي في معاملاته مع باقي الشعوب يميناً؛ لأنه كأنما أقسم لحيوان، والقسم لحيوان لا يُعد يميناً.. فإذا اضطر يهودي أن يحلف لمسيحي فله أن يعتبر ذلك الحلف كلا شيء.. على أنه لا معنى للنزاع القائم على الأموال بين اليهودي وغير اليهودي. إن أموال المسيحي ودمه ملك لليهودي وله التصرف المطلق فيها، وله الحق، طبقاً لقواعد التلمود، في استرجاع تلك الأموال).


لم تشعر كاميليا لهذه الكلمات بمذاق، أو معنى، على الرغم من معرفتها بأنها من قواعد الديانة اليهودية التي تجلها وتحترمها، بل وتؤمن بها أعمق الإيمان.. وعادت تنظر من جديد إلى الدهليز المظلم والباب الصغير، وأشباح الظلال تتراقص على الحيطان الجرباء الرطبة ذات الرائحة المميزة.. إنها تكاد تختنق: (هذا الملعون لماذا لم يأتِ؟ لئن رأته عيناي لأنشب أظافري في جسده وفي عينيه لا.. لا.. إن عيونه جميلة تنضح بالحيوية والرجولة.. وليست ذابلة ميتة كعيون زوجي..). تنهدت في تعاسة.. وأخذت تبكي وتضرب يديها ورأسها في سرير قديم لكنها سرعان ما استعادت هدوءها وجففت دموعها.. واختطفت كتاباً ثالثاً صغيراً وأخذت تقرأ فيه.. لكن الكلمات شدتها هذه المرة.. (ماذا أرى يا إلهي؟؟) فلتقرأ بصوت مرتفع:

وقال الربي كرونر: (إن التلمود يصرح للإنسان اليهودي بأن يسلم نفسه للشهوات إذا لم يمكنه أن يقاومها، ولكنه يلزم أن يفعل ذلك سراً لعدم الضرر بالديانة، ولقد ذكر في التلمود عن كثير من الحاخامات مثل الربي (رابي) والربي (نحمان) أنهم كانوا ينادون في المدن التي يدخلونها عما إذا كان يوجد فيها امرأة تريد أن تسلم نفسها لهم عدة أيام.. وجاء في التلمود أيضاً عن الربي (اليعازر) أنه فتك بكل نساء الدنيا، وأنه سمع مرة أن واحدة تطلب صندوقاً ملآناً بالذهب كي تسلم نفسها فحمل الصندوق وعبر سبعة شلالات حتى وصل لها.. وجاء في التلمود أن هذا الحاخام لما توفي صرخ الله في السماء قائلاً تحصّل الربي (اليعازر) على الحياة الأبدية..).

وعادت كاميليا تقرأ هذه الكلمات المثيرة مرة أخرى بإعجاب.


كيف تكون هذه الكلمات في الكتب الإسرائيلية المقدسة دون أن تدري عنها شيئاً؟ إن زوجها لا يذكر لها شيئاً عن ذلك ولا يخبرها إلا عن الفطير المقدس..

وتوقفت عن التفكير حينما سمعت صرير الباب..

ها قد أتى مراد الفتال..

(أيها الملعون كدت أفقد عقلي..).

تشبثت به كأغلى أمنية تفوق الدين والدنيا بالنسبة لها.. وشربت مرة أخرى.. وشرب مثلها من خمر معتقة، كان يرتجف.. لكنها قالت في سخرية عابثة: (سوف تحصل على الحياة الأبدية كالحاخام اليعازر.. تصور يا مراد أنني غريبة.. غريبة جداً! أحياناً كثيرة أحب القذارة.. هذه الغرفة بما فيها من تراب وظلام وأتربة وصرارير وأغراض قديمة.. تلذ لي.. تبعث النشوة العارمة في كياني.. أكاد أتقيأ من سرير داود النظيف وملمسه الحريري، وأكره الأثاث الفاخر في غرفة نومي.. إشرب هذا الكأس.. لا تخف، لن يأتي أحد إلى هنا مطلقاً.. إنني أعني ما أقول، لقد رتبت كل شيء.. النسوة في دمشق يستمتعن بالحياة الحلوة فلم أحرم أنا منها؟؟ اللعنة على كل شيء.. لديّ المال والعطور والمجد.. لكني أبصق على كل شيء لأني أشعر بالحرمان، ولا أعرف للحب معنى مع داود.. إنه ليس رجلاً ومع ذلك فأنا مضطرة لاحترامه.. يا مراد هذه الحجرة القذرة الصغيرة هي جنتي الموعودة، لنشرب ونستمتع بالحياة، وأنت لا تخف.. فقد جاء في التلمود أن (اليعازر) قد فتك بكل نساء الدنيا.. ولم يحرقه الله بالنار.. وإنما تحصّل على الحياة الأبدية..).


دمشق نائمة..
والظلام كالكابوس المرهق..
وحارة اليهود تتلوى كثعبان كبير.. في جوفه الجواهر.. والقطع الذهبية.. وزجاجات الخمر.. وغانيات يلعبن بالنار.. ويرقصن رقصات غجرية.. وحاخامات يتحدثون عن الفطير المقدس.. ودم المسيحيين.. وعيد الفصح الذي اقترب..

- (إني أكره هذا الرجل كراهية لا مثيل لها..).

هذا ما كان يردده سليمان الحلاق دائماً أمام أصدقائه من اليهود، وكان يقول ذلك عن الأب (توما) أمام صديقه (مراد الفتال) ويؤكد عليه في وجود آل هراري، ويصرح به في فخر أمام الحاخام موسى أبو العافية، والحاخام موسى سلانيكلي.. وكان يحاول أن يعلل كراهيته للقسيس تعليلاً دينياً، فاليهود يكرهون المسيحيين ويعتبرونهم وثنيين، ويستبيحون أموالهم ودماءهم، بل يضعونهم في مرتبة تساوي مرتبة الحيوانات والبهائم، حسب تعليمات (التلمود)، لكن السبب الحقيقي الكامن وراء كراهية سليمان الحلاق للبادري توما هو المهنة.. أجل.. لأن سليمان يزاول مهنة الطب، والأب توما يمارسها هو الآخر، لكن الجميع يعرفون أن توما يمارسها على أسس علمية، وتجربة طويلة، أما سليمان فهو محدود الكفاءة، أغلب نشاطه يدور في مجال (فصد الدم)، ولا يلجأ أحد إلى سليمان إلا في حالة تعذر وجود الأب توما، أو انشغاله بأعمال كثيرة، ومن ثم فلا مناص من أن يلجأ المريض إلى سليمان مضطراً..

ويقول سليمان لزوجته:
- (تصوري هذا المأفون المدعو توما يعالج الناس جميعاً بالمجان!! إنه يضحي في سبيلهم بماله ووقته دون أن يجني أية فائدة، والناس يثقون به. عندما أتذكر السنوات الطويلة التي قضاها هذا الأبله في خدمة الناس دون أجر أكاد أجن، لو تقاضى أجراً لكان الآن يملك مئات ألوف الألوف من الدنانير الذهبية، الأهم من هذا كله لو لم يكن هذا الرجل موجوداً في الشام لكنت ربحت الكثير من وراء المسلمين والمسيحيين هنا.. لكن ذلك الملعون أغلق باب الثراء والمجد في وجهي.. ولن أنسى ما حييت أنه أساء إليّ أكثر من مرة. أجل.. ستقولين إنه لا يسيء إلى أحد. لكني أؤكد لك أنه كثيراً ما كنت أصف دواء لمريض فيأتي هو ليغير الدواء، لم يكن يتكلم عني بشيء نابٍ لكن مجرد إهمال علاجي أو تغييره يعني أشياء خطيرة، معنى ذلك أني جاهل، كل الناس يسخرون مني، ويتهامسون قائلين: سليمان لا يعرف شيئاً في الطب سوى فصد الدم. آه يا زوجتي.. ربما أفضل أن يتهمني الناس في شرفي ولا يتهموني في كفاءتي في مهنتي..).


ومع ذلك فقد كان سليمان يعيش في بحبوحة من العيش، ويحاول جاهداً أن يتغلب على أحزانه وهواجسه، وكان يبتسم في وجه الأب توما كلما تصادف ولقيه في الطريق العام، أو اجتمعا معاً عند مريض. وذات مرة تجرأ سليمان وقال له:

- (أيها البادري الصالح.. يجب أن تتقاضى أجراً على جهودك الدائبة في الليل والنهار.. الأجر يجعل لعملك معنىً وقيمة.. حينما تقدم للناس شيئاً بلا ثمن فإنهم يزهدون فيه.. لا يقدّرونه حق قدره..).

ابتسم الأب توما في رقة وقال:
- (أي سليمان لا أريد أجراً، ولا أنشد مجداً بين الناس، إن عينيّ متجهتان دائماً صوب السماء، من أجل المسيح أعمل.. وفي سبيل التعساء من بني البشر أجاهد.. والسعادة التي تتدفق بين حنايا الضلوع هي الثواب الكبير.. إنها نعمة كبرى.. فليبارك الرب مسعانا..).


كلمات البادري كان لها وقع السهام على قلب سليمان، وابتسامة البادري النقية أثارت حنق سليمان الحلاق، فتمنى أن ينقض عليه ويخنقه، وهدوء الرجل أشعل عاصفة من الحقد في قلبه، لكن سليمان بادله ابتسامة بابتسامة، وإن كان التناقض كبيراً بين الابتسامتين، وأثنى على فضيلة الأب وحسن إخلاصه ودعا له بمزيد من التوفيق والنجاح..


قال سليمان لزوجه:
- (إنني أعتقد أن صلحاء هذا العالم هم البلهاء.. لو لم يكن لكل شيء ثمن في هذه الحياة لما وجد الملايين الرغيف.. انظري.. إنني أزِنُ عملي بمقدار ما أسعى من خطوات، وبقدر ما أقضي من ساعات، وعلى أساس ما أحققه من نجاح، هذا هو الصواب في رأيي، لكن هناك نقطة هامة يا زوجتي، إنني لم أصل بعد إلى الهدف المنشود، ما معنى ذلك؟ ليس له سوى معنى واحد هو أن العمل الشريف وحده لا يستطيع أن يصعد بالإنسان إلى قمة المجد، لابد إذن من الوثب.. القفز العالي.. لابد من التفكير لكي أصل إلى الهدف الأعظم.. أراني مضطراً لأن أكذب وأمالئ وأنافق وأسرق بل وأقتل في بعض الأحيان. ألا ترين كيف حكمت أوروبا العالم وسيطرت عليه؟ وكيف استطاع الإنجليز أن يثبتوا أقدامهم في الهند..؟ لابد من الخوض في دماء البشر وجثث الضحايا.. الأقوياء ينتصرون.. وليست القوة سيفاً ومدفعاً.. لكنها عقل يفكر.. ولكنها قوة إرادة تسحق هواجس النفس وضعفها، وتسخر من كل القيم النبيلة.. الجَسور وحده ينتصر ويثري.. ويبلغ قمة المجد..).

واحتقن وجه (سليمان الحلاق) وزمجر قائلاً:
- (هأنذا ما زلت حلاقاً حقيراً في حارة اليهود.. مهنة تافهة حقيرة يستطيع أن يتعلمها أغبى خلق الله..).

ثم لمعت في عينيه بارقة انتصار وقال:
(لكن الأمل لم يزل حيّا في قلبي.. بيني وبين النصر خطوة واحدة.. قال لي داود هراري سوف نضرب يا سليمان ثلاثة عصافير بحجر واحد.. أولاً سنحقق أمراً دينياً هاماً، ثانياً نقضي على منافسٍ خطير، ثالثاً ستربح يا سليمان أنت بالذات مالاً وفيراً..).

قالت زوجه في دهشة:
- (أنا لا أفهم شيئاً مما تقول يا سليمان..).

- (ليكن.. فقد اجتمعنا.. وأصدرنا أمرنا..).

لوت الزوجة شفتها السفلى في حيرة:
- (تزيدني همّاً وغموضاً..).

- (إنه أمر سري لا يخص النساء..).

دق قلبها في توجس وقالت:
- (إني خائفة..).

- (الخوف لا يحقق نصراً لا يصنع مجداً يا امرأة..).

- (من خاف سلم يا زوجي).

- (لو اعتصمت بالخوف لبقيت واقفاً في مكاني طول حياتي دون تغيير حتى تجيف جثتي.. وأموت كالكلب..).



وعاد سليمان إلى حجرته وحيداً يفكر، أخذ يتصفح الوجوه التي التقى بها منذ ساعات في كنيسة الإفرنج، إنهم من علية القوم وكبرائهم؛ الحاخام موسى أبو العافية، الحاخام موسى سلانيكلي، داود هراري وأخواه هارون وإسحاق، يوسف هراري، يوسف لينيادو.. ثلة من رجال الدين ورجال المال. في هذا الركب يجب أن يسير سليمان، ومع هؤلاء الكبار يجب أن يتبوأ مقعده، ذلك مكانه الطبيعي، فليفعل أيّ شيء، إنه بذلك يلبي إرادة الله، ويحقق ذاته ويكسب المال، والمحركات كلها في طيّ الكتمان، كل شيء قد تم رسمه بدقة متناهية، وما هي إلا ساعات حتى يصبح سليمان إنساناً آخر.. لن يترك (محل الحلاقة).. سيبقى كما هو سليمان الحلاق في الظاهر، لكنه في الحقيقة قد ولج باب الجنة الموعودة.. ونال ما يشتهي.. وأصبح رجلاً ذا قيمة.. وردد في سعادة:

- (إنه مبلغ كبير جداً.. كبير لو حَلقت رؤوس أهل الشام جميعاً لما أمكنني الحصول عليه..).



وأخيراً ذهب إلى فراشه ونام، كان يردد أثناء نومه (إنه مبلغ كبير.. أكبر صفقة في حياتي..).

وكانت زوجه تربت على رأسه، وهو يغط في نومه، وتقول: (مسكين سليمان.. فليحقق الله لك ما تبتغيه).

على الرغم من أن الوقت كان عصراً وشهر فبراير (شباط) في بدايته، إلا أن الجو كان دافئاً، والسماء صافية، ودير (البادري توما) رائق هادئ بسيط الأثاث تفوح في جنباته رائحة عطرية، نتيجة لاحتراق العيدان الرفيعة ذات الأريج، والتي تبعث بخيط رفيع من الدخان الأزرق. كان البادري توما يعد نفسه للخروج وقد ارتدى ثوبه الأسود، ولف على وسطه الحزام الأبيض، وهو لا يعدو عن كونه حبلاً نظيفاً بسيطاً، وارتدى طربوشه المعروف، وكان يقف إلى جواره خادمه الأمين (إبراهيم عمار) بعد أن أدى صلاته، وفجأة قال الخادم إبراهيم:
- (أبتاه..).

التفت توما إليه، وقد لاحظ رنة حانية عاطفية في نبرات صوته:
- (ماذا يا إبراهيم؟؟).

قال خافض الرأس:
- (أريد أن أكون تقياً مثلك..).

ابتسم البادري في ودّ وهمس وعيناه تنظران إلى الآفاق الرحبة:
- (من يدري؟؟ قد تكون أفضل مني عند أبينا الذي في السموات..).

قال إبراهيم:
- (مستحيل، إنني أعرف نفسي جيداً.. الخطايا القديمة تغرقني من أخمص قدمي حتى قمة رأسي..).

قال البادري في رضى:
- (هذا بداية الطريق..),

- (لكني يا أبتاه أريد أن أجيد القراءة والكتابة، أتمنى أن أحفظ كل الكتب المقدسة الموجودة لديك عن ظهر قلب.. أريد أن أتقن العربية والعبرية واللاتينية والفرنسية.. أريد أن أعرف الطب.. وأعظ الناس.. أريد أن أخاطب (السيد) بكل لغة.. بقلبي.. وعملي ولساني وقلمي.. إن بداخلي طاقة كبرى..).

وعاد البادري يربت على ظهر خادمه قائلاً:
- (أي بني الحبيب، الله يفهم لغتك دون أن تتكلم.. إنه يعلم خفايا القلوب.. الحفاة العراة من الصيادين والجهلة.. فتح لهم بابه.. أصبحوا حواريين لولده المخلص.. وأخذت الدنيا عنهم المعرفة والنور.. إن يكن قلبك نقياً.. تتفتح لك أبواب السماء وتصير الأرض كلها في قبضة يدك.. ولا حدود لقدرة المؤمن.. لأنها من قدرة الله..).

ألقى إبراهيم بنفسه بين ذراعي البادري (توما) وأخذ ينتحب، فجفف له دموعه وأعاد إليه الأمل والاطمئنان، وظل معه حتى هدأت نفسه تماماً ثم قال:
- (إنني ذاهب الآن يا إبراهيم لألصق إعلانات مزاد تركة (ترانوبا).. إنهم أصدقاؤنا.. وسوف أذهب إلى حارة اليهود كي ألصق الإعلانات أو أغلبها هناك، وسأخبر صديقي الحميم (داود هراري) بهذا الأمر..).

قال إبراهيم:
- (أتظن أنه من الضروري أن آتي معك..؟؟).

- (لا.. لتبق أنت لتعد طعام العشاء.. ويكفي أن تحضر لي حقيبتي الصغيرة، فقد ينتدبني بعض المرضى لإسعافهم أو علاجهم، ما أعظم أن يداوي الإنسان الأرواح والأجسام، ولَكَم كنت أتمنى أن تكون معرفتي بالطب أكثر من ذلك..).

تناول البادري حقيبته، وأدى صلاة قصيرة ثم التفت إلى خادمه إبراهيم عمار قائلاً:
- (لن أبقى هناك طويلاً، فأنا أشعر برغبة في الراحة.. وأرجو أن أجد فرصة للقراءة.. عندما أقرأ أشعر براحة كبرى.. فليباركك الله يا بني الطيب.. وليسدد خطاك..).


وانطلق البادري يخب خباً صوب حارة اليهود
كان البادري يشق طريقه عبر حارة اليهود، وعلى الرغم من أنه اقترب من الستين إلا أنه كان بادي النشاط، تـُرى ملامح السعادة على وجهه الأشقر، وكان الناس يحيونه من آن لآخر فيرد التحية بابتسامة حلوة، أو يلوح بيده شاكراً، أو ينطق بكلمة شكر مهذبة، الجميع يعرفون البادري توما، ليس في حارة اليهود وحدها أو دمشق وحسب، بل إن الرجل لتـُشد إليه الرحال من جميع أنحاء بلاد الشام، تقديراً لطبه وفنه، وإيماناً ببراعته وخلقه الحسن.


ونظر البادري إلى (داود هراري) من بعيد فابتسم في رضى، إن داود صديقه الحميم، وهو رجل طيب معروف أمام الناس بالصلاح والاستقامة، حتى إنهم كانوا يطلقون عليه (اليهودي الصالح)، وبشّ داود لمقدم توما، واستقبله فاتحاً ذراعيه، واحتضنه في حب، وقبّل وجنتيه ولحيته، مما جعل البادري يغمغم (صديقي وحبيبي داود)، وكان يقف خلف داود عدد من اليهود المعروفين: الحاخام موسى أبو العافية، والحاخام موسى سلانيكلي، وهارون وإسحاق ويوسف هراري، ويوسف لينيادو، وتمتم الحاخام سلانيكلي:
- (إن صداقتكما مخيفة.. لكم نخاف على داود أن تخرجه من دينه أيها الأب توما، وتدخله في ديانتك).

ضحك الجميع بينما رد البادري قائلاً:
- (كلنا إخوة).

وقال داود:
- (جئت في وقتك، لدينا ولد نريد أن تعطي له طعماً ضد الجدري الآن..).

- (من حسن الحظ إن معي الحقيبة، غير أن معي أيضاً بعض الإعلانات أريد إلصاقها على باب الكنيس).

قال داود:
- (هيا بنا لإعطاء الطعم أولاً.. وستكون هناك فرصة لشرب الشاي،
ومجاذبتك أطراف الحديث.. إني في شدة الشوق للقياك، لم أعد أطيق فراقك).


وسار الرجال في موكب مهيب يتقدمهم البادري وداود والحاخامان الكبيران، إنها صورة للتسامح والمحبة بين أتباع دينين عرف العداء الشديد بينهما من قديم الزمان، منذ العشاء الأخير للمسيح.. ودلفوا إلى بيت داود عبر الباب الصغير، واجتازوا الممشى الضيق المعتم، وانحرفوا صوب المربع الجديد.


لو قيل للبادري إن البحار هاجت وماجت واشتعلت أمواجها نيراناً فجأة لصدق الأمر، أما أن يرى صديقه الحميم اليهودي الصالح داود يكشر عن أنياب الغدر، وتنقلب سحنته الطيبة فجأة إلى سحنة شيطان شرير، ثم يقترب منه يريد أن يفترسه، فهذا أمر لا يمكن تصديقه، تمتم البادري (ماذا جرى ولِمَ؟) لم يجب داود بشيء. نظر البادري حواليه سائلاً الرجال: (هل تصيبه هذه اللوثة من آن لآخر.. لم أكن أعرف).


وفي لحظات.. كان البادري مغلّلاً بالحبال، لا يستطيع الحركة.. وبدأ يشعر بآلام الحبال تحزّ في جسده الرقيق، وهمس في دهشة وقد شحب وجهه: (أنتم أيضاً تشاركون داود فيما يفعل؟؟) ونفض البادري رأسه، وفتح عينيه جيداً وهتف في استغراب:
- (هل أنا في حلم أم في يقظة؟ أيها الرجال الطيبون ماذا تنوون أن تفعلوا بي؟).

قال الحاخام سلانيكلي ساخراً:
- (أنت مقدم للمحاكمة).

- (لكنكم تمزحون مزاحاً ثقيلاً لا يليق بكم ولا يليق بي).

- (زعمت أنك تطمع في تحويلنا عن ديانتنا إلى المسيحية، أتقر بذلك؟).

قال البادري وأمارات الألم ترتسم على وجهه وفي عينيه:
- (نحن لا نسوق الناس سوقاً إلى بابه وحرية الاختيار للجميع، وصاحب كل دين، أيّ دين، يدعو الناس للهداية بطريقته السلمية.. هكذا أمرنا السيد المسيح).

وضحك الرجال في هيستيرية وقال داود:
- (حسناً، إن ديننا يأمرنا بأن نسفك دمك، أترانا نطيعه أم نخالفه؟؟).

قال البادري وقد دقّ قلبه بعنف:
- (إنك تمزح يا داود!).

أخرج الحاخام سلانيكلي كتاباً صغيراً من جيبه ثم قال:
- (إذن فلنقرأ كلمات التلمود عن الفطير المقدس المعجون بدم مسيحي.. لنقرأ معاً..).

وأخذ الحاخام يقرأ بضعة سطور، وعيون البادري تروح وتجيء، والدموع تبلل أهدابه، ولحيته ترتجف، وتمتم:
- (أيها الرجال.. أنتم تلعبون لعبة خطرة، وتفتحون الطريق لفتنة كبرى.. لقد سمعت شيئاً عن ذلك التقليد السيء، لكني لم أكن أصدقه.. ليست هذه كلمات التوراة، لقد دسّها عليكم بعض الحاخامات الجهلة حقداً على بني البشر، وانحرافاً بالديانة عن مجراها الصحيح، انظروا في الأمر جيداً.. أنا لم أسئ إلى أحد منكم.. تدبروا.. إن القتل جريمة بشعة لا يقرها عرف ولا دين ولا قانون).

قال الحاخام موسى أبو العافية:
- (لسنا في حاجة لأن تعلمنا أمور ديننا.. إن سفك الدم هو تذكار لما
أمر الله بني إسرائيل بأن يلطخوا أبواب بيوتهم بدم الحمل المذبوح في عيد الفصح عندما كانوا تحت عبودية فرعون).

هتف البادري قائلاً:
- (لكن أيها الأخ المعظم، التوراة نزلت قبل أن يأتي المسيح، وعبودية فرعون لكم قديمة، فكيف يأتي في الديانة شيء يمس المسيحيين قبل أن يوجدوا؟؟ إن أي عاقل متبصر يستطيع أن يتبين فساد ذلك..).

تدخل الحاخام سلانيكلي قائلاً:
- (أسباب سفك الدم عندنا ثلاثة.. أولها كراهيتنا للمسيحيين الذين هم بمثابة حيوانات أو وثنيين كفرة مستباح قتلهم، وثانيها أنه قربة إلى الله، وثالثها أن للدم المسيحي فعلاً سحرياً في بعض الأمور السرية..).

وعند المقطع الأخير تنبه داود، تذكر عجزه الفاضح أمام زوجه الجميلة (كاميليا)، وتذكر أن الفطير المعجون بدم المسيحي يرد إليه شبابه الضائع، وحيويته الغاربة، قد يُدخل على حياته فوائد جمة تحقق له السعادة في الدنيا والآخرة، قال داود ساخراً:
- (اغفر لي يا أبتاه..).

- (وكيف أغفر لغادر يتجنى على الله؟؟).

- (من عادتنا يا أبتاه أن نبكي على خراب أورشليم.. ولابد أن ندهن الجبهة من جهة الصدغين برماد الكتان المنقوع في دم مسيحي..).


طأطأ البادري توما رأسه، وأظلمت الدنيا في عينيه، لم يكن يدري ماذا يفعل، ووقفته أمام الموت رهيبة، وأشد منها إزعاجاً أن ترتكب الخطيئة الكبرى باسم الدين، وتذكر اللحظات المذهلة التي ساقوا فيها المسيح إلى الميدان الكبير، يا لها من لحظات!! وشعر البادري بقليل من الراحة ثم تطلع إلى السماء.. ناجاها بقلبه ودموعه وسمع داود يقول:
- (إننا نحتفل بذكرى صلب الناصري (المسيح) دائماً، لم يكن الناصري هو المسيح الحقيقي.. وتأكد أيها الأب أن المسيح الحقيقي سوف يأتي يوماً من أجلنا، وعند ذبحك سنقول: (هكذا فعلوا بنبي النصارى الذي ليس بنبي حقيقي.. سيأتي في المستقبل أناس عظماء مع المسيح المنتظر راكبين الخيول والجمال فينقذوننا من الأسر..).

صرخ الأب توما بأعلى صوته:
- (أيها الكفرة المخرفون..).

قال الحاخام أبو العافية:
- (اربطوا فمه حتى لا يصيح..).

وعندما ربطوا فمه، تمتم الحاخام سلانيكلي:
- (يقول التلمود: من العدل أن يَقــْتــُلَ الإسرائيلي بيده كل كافر، لأن من يسفك دم الكافر يقرب قرباناً إلى الله..).




كان النسوة والأطفال في بيت هراري محتجزين في الجناح الشمالي للبيت، والعاقلات منهن كن يعرفن ماذا يجري هناك، وجلسن صامتات، وحينما انبعث أنين الضحية المتألمة، وقفت إحداهن والفرح المجنون يرتسم على وجهها المكتنز المحتقن وقالت:
- (أتسمعون الأنين؟؟ اضحكوا واسعدوا.. دقوا الطبول وارقصوا ورددوا أجمل الأغاني الدينية.. هذا يوم المنى.. أسعد أيام العمر..).


وكم كانت دهشتهم حينما رأوا (كاميليا) زوجة داود تلف حول وسطها شالاً حريرياً ثم ترقص في الحجرة الواسعة، وسرعان ما تماوجت حركاتها مع تصفيق الأيدي، ودقات الدفوف، وانتشى الأطفال الذين لا يعرفون ما يجري بروعة ما يشاهدون، فأخذوا يشاركون فيه في بلاهة، ويضحكون ويمرحون ويقلدون النسوة. لم يكن غريباً أن يحدث الغناء والرقص في بيت يهودي، إذ المعروف في دمشق كلها أن اليهود يقبلون على المرح في كثير من الأوقات ويعشقون الخمر والرقص والغناء، بل ويقومون ببعض التمثيليات القصيرة الكوميدية تقليداً لأهل أوروبا، إلى جانب أن البيوت المجاورة كلها يملكها اليهود، فلن يثير الموضوع شيئاً من الشك أو الريبة بل إنه سيغطي على صياح الضحية إذا فكر في طلب النجدة أو الاستغاثة.. بعد أن انتهت كاميليا من الرقص هرولت إلى حجرتها الخاصة لتغير ملابسها، وبصرت بمراد الفتال وهو يهرول متجهاً صوب باب البيت فدعته إليها فعاد مرتبكاً:
- (اتبعني إلى حجرتي..).

- (سيدتي إن داود بالبيت..).

- (أيها الأحمق.. اتبعني..).

- (لقد أرسلني في أمر هام..).

- (دقيقة واحدة وترجع بعدها..).

تلفت حواليه في خوف، لم يجد أحداً، النسوة معزولات في مكانهن لا يصرح لهن بالخروج باستثناء كاميليا، والرجال متجمعون حول الأب توما الذي أحكم وثاقه، ولهذا تبعها مسرعاً ودلف إلى حجرة نومها، وأغلقت الباب، ثم تعرت من ملابسها وتمطت أمام المرآة وقالت:
- (انظر يا مراد.. هذا لك كله..).

- (بالله عليكِ اتركيني.. الأمر خطير.. وجسدي كله يرتجف).

- (أعرف ذلك.. هل ذبحوه؟؟).

- (ليس بعد..).

اقتربت منه وطوقته بذراعيها وقالت:
- (لكم أحبك.. ضمني إليك بشدة.. إنني لا أنسى اللحظات التي أقضيها معك.. أعطني بضع قبلات عابرة.. لقد شربت كثيراً.. رأسي يدور.. تمنيت أن يحترق العالم كله وأبقى أنا وأنت..).

قال وهو يتملص في رقة:
- (سيدتي.. ليس لديّ وقت..).

ثم نظرت إليه وقد تغيرت سحنتها:
- (ما هي المكافأة التي وعدك بها داود بعد إتمام ذبح البادري؟).

- (لم يعدني بشيء بعد..).

سددت إليه نظرات وحش كاسر وقالت:
- (زعم أنه سوف يزوجك أستير.. لقد أخبرني بذلك..).

طأطأ رأسه وتفصد جبينه عرقاً، واشتد شحوب وجهه:
- (هذا أمر سابق لأوانه..).

ضحكت في خلاعة وقالت:
- (تستطيع أن تنصرف الآن، لكن ثق أن كاميليا لن تهزم.. إنني أقوى منكم مجتمعين.. وأنا أعني جيداً ما أقول.. انصرف أيها الكلب.. ولا تتردد كلما دعوتك إليّ..).

أعطاها ظهره ثم اتجه صوب الباب لكنها لحقت به ووضعت في يده مبلغاً من المال كبيراً، فابتسم، أما هي فقد تردد صدى ضحكاتها المتكسرة في أروقة الحجرة الضخمة ذات الرياش الثمينة..


في ذات الإنسان، في داخله العميق المجهول، حيـّـز لا يستطيع الخداع أن يتسرب إليه، إنها منطقة حرام مقدسة الجنبات، كأنما أحاطها الله بأسوار وحواجز لا يمكن أن تخترقها قوة الشياطين، وإلا لماذا يشعر سليمان الحلاق بالخوف الآن؟؟ لماذا يرتجف قلب الخادم مراد الفتال، حتى الحاخامات والرجال من أسرة هراري يؤدون دورهم البغيض وشيء ما داخل كل فرد يقول: (لا..) ويرفض الانصياع، أليس غريباً أن يحدث ذلك وهم مؤمنون بأن ما يفعلونه إنما يؤدونه كفريضة دينية نادى بها التلمود وأكدها الأحبار؟؟ إذن لو كان الأمر أمر دين لما حدث هذا التردد، ولا داهمهم ذلك الخوف، ولا أعجزهم الارتباك.. كل واحد منهم يحاول جاهداً أن يقهر تلك النوازغ كي يقضي على التردد والخوف والارتباك، لقد جلس سليمان الحلاق في دكانه منقبض الصدر، وحينما رأى مراد قادماً نحوه هب واقفاً وهتف:

- (هل ألغيتم العملية..؟؟).

قال مراد وهو يغالب ضعفه ويحاول الظهور بمظهر الشجاع:
- (سيدي يطلبك على الفور..).

- (من؟؟)

سدد إليه نظرات ساخرة وقال:
- (داود..).

وابتلع مراد ريقه واستطرد:
- (الرجل على الصليب، قد كمموا فاه، وربطوه بالحبال ربطاً محكماً.. ولن يتراجعوا..).

ابتسم سليمان ابتسامة شاحبة وقال:
- (أنا قادم معك..).

- (لا.. بل ستأتي وحدك..).

- (كنت أريد أن أخبرك..).

- (بماذا؟؟).

- (لقد أتى الخادم إبراهيم عمار هو الآخر يبحث عن الأب توما..).

قال مراد في لهفة:
- (وأين هو..؟؟).

أشار سليمان بيده في اتجاه أحد المنازل اليهودية المعروفة وقال:
- (هنا.. قالوا له إن الأب توما بالداخل.. فأسرع الخادم.. ولسوف يلقى نفس المصير الذي سيلقاه القسيس..).

وفرك مراد يديه وقال:
- (كل شيء يمضي على ما يرام.. لكني خائف..).

ضحك سليمان في حزن وقال:
- (لسوف تتزوج من تحب، أستير فتاة جميلة تستحق أن يضحى في سبيلها..).


شرد مراد إلى بعيد، تذكر كاميليا تلك الشيطانة الجميلة المثيرة، هذه المرأة الغريبة التي شرب من كأسها حتى أتخم، إنه يحبها ويكرهها، يخاف منها ويأنس إلى جوارها، أي تناقض يرزح مراد تحته؟ أنا مجرد خادم قد تركلني غداً.. بل تستطيع أن تدس لي السم وتقضي عليّ في أي وقت تشاء، لا أدري ماذا أفعل؟ ومع ذلك فأنا أسير في الطريق.. لا أدري أين تقودني قدماي، لكنها فاتنة غجرية الجمال لعوب.. قاتلة.. أي امرأة تلك!! أستير بالنسبة لها لا شيء.. أستير كالشاة الهادئة..

قال سليمان:
- (فيما تفكر يا مراد؟ أتخاف مثلي..؟؟).

رد مراد قائلاً:
- (لا.. تذكرت ما قاله الحاخام بالأمس قال: لا محبة ولا عدل مع المسيحيين.. من احتقر أقوال الحاخامات استحق الموت.. اعلم أن أقوال الحاخامات أفضل من أقوال الأنبياء.. ومن يجادل حاخامه أو معلمه (في الدين) فقد أخطأ، وكأنه جادل العزّة الإلهية.. اقتل الصالح من غير الإسرائيليين..).

قال مراد وهو يبتسم في لا مبالاة:
- (أعرف ذلك كله.. لطالما ردده الحاخامات على مسامع سيدي، كنت أستمع إليهم وأنا أصب القهوة أو أعد النرجيلة.. لكني لا أفكر في شيء من هذا..).

- (فيم تفكر إذن؟).

- (في أستير..).

- (لسوف تتزوجها..).

- (هي مسكينة وتعلم كل شيء.. هذه الشاة الصغيرة تعرف تصرفاتي وانحرافاتي..).

هزّ سليمان كتفيه دون أن يفهم شيئاً، بينما هتف مراد في عجلة:
- (لقد نسينا أنفسنا.. أسرع إلى دار داود..).

- (لسوف أحضر الموسى..).

- (لا داعي لذلك).




ذهب الخواجا (سانتي)، صيدلي المستشفى، إلى دير الأب توما كي يعيد إليه كتاباً كان قد استعاره منه، لكنه في ذلك المساء (الأربعاء) وجد الدير مغلقاً.. وطرق الباب فلم يجبه أحد، أخذ يطوف حول الدير فلم يسمع صوتاً لصديقه ولا حسّاً لخادمه إبراهيم.. شيء غريب.. ومع ذلك فقد قرر أن يعود من حيث أتى، وأثناء رجوعه مال على الدير الكبير (تيرسانت) وأخبر الرهبان هناك بأن البادري توما وخادمه إبراهيم لم يعودا حتى هذه الساعة، فلم يكترثوا للأمر ورجحوا أن البادري ربما يكون قد ذهب لمعاونة بعض المرضى، وكثيراً ما يحدث ذلك لأنه لا يرفض طلباً للمساعدة من أحد.




ودمشق تنام، والعسس يمضون في الطرقات يحكمون ستراتهم لأن نذر البرد تلامس آذانهم المكشوفة، وعندما تنام دمشق فهو نوع من النوم غريب، لأن الآلاف يتقلبون في الفراش يفكرون ويدبرون، ويتذكرون الماضي والحاضر، ويحاولون أن يستشفوا حجب المستقبل.. الأحداث كثيرة.. ولو استطاع أحد الدارسين أن يبحث أسباب الأرق في آلاف البيوت لوجد عجباً.. شاب يحلم بفتاة حلوة أحبها قلبه.. رجل يريد أن يأخذ بثأره، وخيالات الدم تلعب برأسه.. تاجر تمتلئ رأسه بالأرقام ويطرح ويضرب ويقسم، سياسي يخطط لمزيد من السيطرة والنفوذ، ويبحث عن وسيلة لتحطيم أعدائه، فتاة كالزهرة، تحتضن وسادة حريرية وتترنم بأغنية شعبية.. امرأة تخون، رجل يسرق، شيخ يقوم الليل ويضرع إلى الله، سجين ترهقه القيود والأغلال، ويستنجد بالسماء كي تفك إساره.. سكران يضحك ملء شدقيه وكأنه حاز الدنيا بأسرها، مريض يتلوى من شدة الألم، شاب يتراقص من شدة الفرح. دنيا غريبة ممتلئة بالكثير من المتناقضات والأعاجيب.. لكن الأمور تمضي والموكب يسير.. وهذا الخليط الكبير يعزف سيمفونية ذات نغمات مختلفة.. لكنها تعطي لحناً واحداً مميزاً اسمه (الحياة)، ومن يستطيع أن يدلف إلى دار داود هراري يرى عجباً.. امرأة تبصق على فراشها الحريري.. وأطفال يغطون في نوم عميق، وداود يتقدم من البادري المربوط، ويرفع الرباط عن فمه ليعود إلى الحديث المكرر.. ويتلذذ بعذاب صديق العمر..

- (ماذا تريدون..؟؟).

- (لا شيء.. يا توما.. مجرد استجواب..).

- (إني أشم رائحة الغدر..).

ضحك.. وسخرية.. وتبسم داود:
- (نحن أصدقاء يا توما..).

- (هذا أسلوب غريب بين الأصدقاء..).

- (هناك أوقات يا توما.. لا يعرف فيها الصديق صديقه ولا الأخ أخاه..).

- (لا أفهم.. الناس جميعاً أخوة..).

- (الناس بهائم وحيوانات يا توما إلا الإسرائيليين.. قلت لك ذلك ألف مرة ومرة، هكذا قال التلمود).

- (التلمود لم ينزّله الله.. الفرق كبير بين كلمات الله.. وسخافات البشر..).


التفت داود إلى هارون وقال:
- (الرجل يسيء الأدب وهو على أعتاب الموت..).

صاح البادري في صبر نافذ:
- (اقتلوني..).

- (ليس الآن..).

- (أريحوني من هذا العذاب..).

- (هذا مشهد يبعث البهجة في النفوس..).

- (وأنا لا أخاف الموت يا داود..).

- (لا تحزن.. سأدفنك هنا في بيتي.. سأقرؤك السلام كل يوم.. ستبقى جثتك هنا إلى الأبد.. سنظل أصدقاء برغم الموت وبرغم فظاظتي معك).

همّ البادري أن ينزع نفسه من الوثاق المحكم، وضحك الرجال وصاح الحاخام أبو العافية:
- (كمموا فاه من جديد.. ها قد جاء سليمان الحلاق..).

دمشق المدينة تبدو كالأرملة التعسة، تحاصرها العيون، وتلاحقها الشائعات بعد أن مات عنها زوجها، ودمشق تجلس كابية حزينة تجترّ الآلام، ويمضّها الملل، ويؤرقها الضياع والفراغ، ولذلك كان حادث اختفاء البادري توما وخادمه إبراهيم عمار فرصة تشغل الأذهان، ووسيلة لقتل الوقت والتغلب على الفراغ المميت. ففي اليوم التالي –الخميس- كان الدكتور مساري، وهو من الشخصيات الأجنبية المرموقة في دمشق، يجلس في منزله انتظاراً لعدد من الرهبان وعلية القوم، فقد أعدّ لهم وليمة فاخرة ظهر ذلك اليوم، وحضر الجميع ولم يبق إلا البادري توما.. وحان وقت الغداء لكن البادري لم يحضر، ولم يبعث باعتذار رقيق كعادته.. بل لم يعثر له على أثر، وهنا لعب الشك بالنفوس، وعم القلق جميع الحاضرين، وليس عجباً أن يحدث أي شيء في مثل تلك الأيام، هذه الفترات العصيبة من حياة الشعب تكتظ بالمفارقات الغريبة، وتحدث فيها العجائب، وتكثر الانحرافات، وصاح الصيدلي (سانتي):

- (أيها الرجال، الأمر خطير ولا يمكن السكوت عليه).

وتهامس الحاضرون، ثم علا نقاشهم حتى تحول إلى ضجيج واضح، وقال الدكتور مساري وقد انتصب شاحب الوجه:
- (شهد البعض أن آخر مرة رأوه فيها كان في حارة اليهود..).

وأدرك الجميع ما يهدف إليه السنيور، فرد أحدهم على الفور:
- (ماذا أقول؟؟ الشبهات تحوم حول اليهود..).

وقال آخر:
- (لا نتعجل في الاتهام..).

وعلّق رجل طاعن في السن:
- (اثنان من اليونانيين شاهدا خادم البادري يهرول إلى حارة اليهود عند الغروب وقد أخبرهما أنه يبحث عن سيده.. والخادم اختفى هو الآخر..).

قال الدكتور مساري:
- (لنرفع الأمر إلى القنصلية الفرنسية، فالبادري تحت حمايتها ويحمل الجنسية الفرنسية..).




حينما بلغ النبأ مسامع القنصل الفرنسي، كان قد انتشر بين أبناء المدينة كلهم، وحدث هرج ومرج، وتدفق الناس من كل صوب نحو دير البادري، وأخذوا يلقون الكلمات جزافاً، وأشارت أصابع الاتهام نحو حارة اليهود (هذه الحارة دولة داخل الدولة)، (هذه الحارة بحر عميق من الأسرار)، (هل نسيتم المذابح التي يقيمها اليهود من آن لآخر باسم الدين؟؟),


وأمر القنصل الفرنسي أحد الرجال أن يصعد سلماً خارجياً ويتخطى جدار الدير الذي يسكنه البادري، ودهش الجميع إذ وجدوا أن الباب لم يغلق بالمفتاح وإنما بالمزلاج الصغير، كما وجدوا طعام العشاء مجهزاً في المطبخ بجوار الكانون، وليس لذلك سوى معنى واحد وهو أن البادري وخادمه كانا قد اتفقا على سرعة العودة لتناول طعام العشاء المعد.. وجال القنصل ومن معه في أنحاء الدير فلم يجدوا أي مظهر من مظاهر الاضطراب أو العبث.. كل شيء في مكانه: الأثاث.. الكتب.. الطعام.. الأدوات.. المال.. الملابس، إذن لم تحدث سرقة أو مجرد محاولة للسرقة. وصاح رجل:

- (أقسم أن البادري وخادمه قد قتلا..).

ورد عليه آخر:
- (ولم يفعلها سوى اليهود).




ووقف أحد الرهبان من (دير تيرسانت) وأخذ يشرح للحاضرين كيف أن اليهود كانوا يشترون الأسرى المسيحيين من الفرس الذين غزوا القدس على أيام (هرقل) ملك الروم، وكيف أنه في أيام السلطان سليم الثالث اختطف اليهود طفلاً يونانياً وذلك لاستنزاف دمه، وثبتت ضدهم التهمة باعترافهم، وشنق ستون منهم.. وعلق كل عشرة في شارع من شوارع المدينة.. وحدث مثل ذلك في إنجلترا. وفي فرنسا ارتكبوا جريمة مماثلة، وقد حضر ملك فرنسا آنذاك (فيليب أوغسطوس) وأشرف على التحقيق، وبعد ثبوت التهمة أصدر حكمه بحرق المتهمين، وأصدر مرسوماً بطرد جميع اليهود من فرنسا.. وأيضاً حدث شيء من هذا القبيل في ألمانيا.. فالقصة أيها الأصدقاء قديمة ومكررة وهي من صميم شعائرهم التي ابتدعها حاخاماتهم وأحبارهم وأثبتوها في التلمود، ولا تنسوا أن عيد اليهود قد اقترب، وفي هذا العيد يفكرون دائماً في الفطير المقدس المعجون بدم المسيحيين..

وصرخ البعض احتجاجاً واستهوالاً للبشاعة، وسأل واحد من المسلمين:
- (أيها الأب.. ألا يفعلون ذلك بالمسلمين أيضاً؟؟).

هزّ الأب رأسه قائلاً:
- (بعض شراح التلمود يزعمون أنه يجوز سفك دم المسلمين، وحجتهم في ذلك أن كثيراً من المسيحيين دخلوا الإسلام..).

وابتلع الراهب ريقه وقال في انفعال:
- (إن شعائرهم تفضل الذكر على الأنثى في مسألة الدم، ويفضلون الطفل عمن عداه، ويعتقدون أن في الدم المسيحي خلاصاً لنفوسهم..).

وقال رجل سوري تلقى تعليمه الديني برواق (الشوام) بالأزهر الشريف:
- (عندي بذلك علم.. فاليهود يفعلون ذلك كثيراً.. لكن يجب ألا نتعجل في نشر الاتهام..).

فهاج عدد من الحاضرين وصرخ أحدهم:
- (يا مولانا، لقد أجمع الشهود على رؤية البادري وخادمه لآخر مرة في حارة اليهود..).

- (لا تصدروا حكماً إلا بعد التحري والدقة.. هكذا يكون العدل).

وصاح شاب مسلم:
- (لا عدل مع من لا يعرفون العدل..).



وتحرك الجمع الصاخب نحو المدينة، وساد الذعر جنبات حارة اليهود، وأقسموا الأيمان المغلظة بأنهم لا يعرفون شيئاً عن البادري أو خادمه، وإنما الرجل المفقود صديقهم الحميم، وهم يحبونه أعمق الحب، بل تطوع أحدهم برصد مكافأة مقدارها خمسون ألف قرش لمن يظهر البادري أو يدل عليه حياً أو ميتاً.. ولجأ اليهود إلى المسؤولين يطلبون الحماية، وينفون التهمة بشدة، ويؤكدون أن هناك بعض المغرضين الذين يريدون إثارة الفتنة بين الناس، ويهدفون إلى إشاعة الاضطراب والفوضى في أرجاء المدينة، لكن قنصل فرنسا كان له رأي آخر، فقد كتب مذكرة ضافية عن ظروف اختفاء البادري وخادمه، واتهم اليهود صراحة بأنهم هم المسؤولون عن اختفاء الرجل، ورفع هذه المذكرة
الضافية إلى (شريف باشا) والي دمشق الذي أمر على الفور بأن يذهب (التفتيشجي) باشا إلى حارة اليهود ليبحث عن المفقودين، وأعطاه الصلاحيات الكاملة لدخول أي مكان..

انسكبت الدموع من عيني اليهودي الصالح (داود):

- (لا أستطيع أن أصدق أن يكون البادري قد أصابه سوء.. إنه آية من آيات المحبة والنبل والوفاء، ولا تجرؤ يد أن تمتد إليه بأذى..).


ولم يسفر البحث والتقصي عن العثور على شيء، وأخذ الناس يضربون كفاً بكف، بينما لجأ اليهود إلى بيوتهم خوفاً وهلعاً، حتى تنجلي الغمة ويسود الأمن والهدوء، وخاصة أن بعض المتحمسين من شباب المسيحية والإسلام قد هددوا بالانتقام.


تنهد داود هراري في ارتياح حينما وصل إلى بيته وأمر خادمه مراد الفتال بأن يحكم إغلاق الباب، وأن يظل يقظاً لأية حركة، مخافة أن يدهمهم أحد المعادين على حين غرة، وطلب منه أن يقف خلف الباب لا يغادره لأي سبب من الأسباب، وأقبلت كاميليا يفوح من أردانها العطر، وتواكبها الفتنة الطاغية، وقميص النوم الوردي يكشف عن مفاتن جسدها المثير، وجلست أمام داود على السرير الموشى بالفضة المغطى بالحرير، ثم أعطته ظهرها وألقت برأسها على صدره، وأخذت تعبث بشاربه، كان في غاية من الضيق لا مثيل لها، ولما لم يستجب لمداعبتها وعبثها همست بصوت حنون:
- (هل أصب لك كأساً من الخمر..؟؟).

- (لا أريد شيئاً..).

- (إذن قبّلني..).

أراد أن يسكتها، فطبع قبلة باردة على جبينها.

- (يا لك من رجل غريب الأطوار.. أنا لست طفلة.. أنظر إليّ جيداً..).

دفعها عنه بهدوء وتمتم:
- (ليس هذا وقته..).

- (متى نأكل الفطير المقدس؟! إن ثقتي بمفعوله السحري لا حد لها..).

هب واقفاً وصرخ:
- (لا تذكري هذا الأمر..).

- (ما الذي يكربك؟؟ قريباً تخفت الضجة.. وينسى الناس كل شيء.. عندئذ يعود إليك شبابك..).

قال في ضيق:
- (أنت تتكلمين في جرأة وقحة..).

- (أنت زوجي..).

- (الزمي جانب الأدب..).

- (ألا يحق للزوجين أن يتبادلا عبارات الغزل..).

تمتم ببيت قديم شهير من الشعر العربي:
أبيت أسْري وتبيتي تدلكي
شعرك بالعنبر والمسك المزكي

همست في دلال:
- (أنا لا أحب الشعر.. فلنغرق أسانا في الكأس والعبث..).

دفعها هذه المرة في عنف وقال:
- (إليك عني.. إن جفوني لم يقربها النوم ليلة أمس.. وأنت كنت تغطين في نوم عميق..).

تمتمت في غيظ:
- (مسكين، ليتك مثلي تعيش لحظتك الراهنة وتنسى ما عداها.. بذلك نسعد بحياتنا).

لشدّ ما يكره كاميليا الآن، ليس لوجودها معنى، هي في واد وهو في واد آخر، هي تضج أنوثة وحيوية وتعيش كالسكرى، وهو يتمزق وهناً وقلقاً كمداً، إنهما غريبان يفصل بينهما صحارى واسعة من فارق العمر، والاهتمامات والآمال، لكنه جاهد غضبه وحاول أن يسترضيها فقال:

- (يا حبيبتي.. إن الأمر خطير.. إنني أعاني من الهموم ما لا يطيقه بشر.. فلتحترمي أحزاني وآلامي.. وأمامنا فسحة من الوقت بعد ذلك..).

وقبل أن تجيب عليه بكلمة سمع صوت هارون هراري ينادي:
- (داود.. داود.. الكارثة على الأبواب..).

وثب من فوق سريره، وفتح الباب ووقف شاحب الوجه، قلق النظرات، وهمس في ضعف:
- (ماذا جرى؟؟).

قال هارون:
- (لقد قبضوا على سليمان الحلاق وساقوه إلى التحقيق..).

صرخ داود في ذعر:
- (مستحيل كيف تسرب الأمر..؟؟).

- (إلى أين..؟؟).

- (يجب أن نواجه الكارثة لنقضي عليها قبل أن تطبق علينا بجناحيها السوداوين..).

- (ماذا ستفعل..؟؟).

- (سأتصل بسليمان وأمنيه الأماني وأؤكد عليه بألا يعترف بشيء مهما كان الأمر..).


تنهدت كاميليا في ارتياح بعد أن خرج زوجها، وابتسمت وسرت قشعريرة في بدنها وهي تفكر في الخادم مراد الفتال.
قال حاذق بك المشرف على التحقيق في قضية اختفاء البادري توما وخادمه:

- (إن أمامنا خيط رفيع قد يوصلنا على الجناة، ونرجو ألا ينقطع.. إنه مجرد بصيص من النور قد يلقي ضوءاً على الفاعل.. لقد لا حظنا أن إعلانات المزاد التي كان يلصقها البادري بنفسه يوم الأربعاء الماضي موجودة في كثير من الأماكن وخاصة الكنائس منذ يوم الأربعاء، لكن يوجد إعلان لم يلصق إلا بعد يومين على باب سليمان الحلاق اليهودي، الذي يقع محله بجوار الكنيس اليهودي، فلماذا تأخر وضع هذا الإعلان بالذات؟؟ لا تسخروا مني، فإن أول الغيث قطر ثم ينهمر، اقبضوا على سليمان الحلاق وأحضروه إليّ على الفور دون أن يشعر بذلك أحد..).


حينما دهموا سليمان في محله، كان يحلق للزبائن في هدوء غريب، لم يكترث لما يراه، وعندما قال له (التفتيشجي): (تعال معنا) أظهر استغراباً ودهشة، ليس الأمر إذن مجرد تدقيق عابر، لماذا اختاروه هو بالذات؟ هل فعلها أحد الخونة ووشى به؟ مستحيل.. إن انكشاف الأمر يعني الخراب والدمار بالنسبة للجميع، سوف يساق الحاخامات وأسرة هراري إلى الجحيم.. لا.. قد يكون هناك مجرد شك، والحلاق معروف بأن محله مأوى للكثيرين (ربما استدعوني ليعرفوا الشائعات التي تتناثر هنا وهناك، أو لعلهم ظنوا أن حلاقاً مسكيناً مثلي، يستطيعون الضغط عليه، والحصول منه على معلومات، وهذا أمر بسيط، أستطيع أن ألعب بهم أو أدعي البلاهة مادام المحققون لا يملكون أدنى دليل ضدي..).

ومع ذلك الاطمئنان الظاهري الذي حاول به سليمان أن يهدئ من روعه إلا أنه كان يسير في الطريق كالمنوم أو المخدّر، عيناه زائغتان وقدماه تتعثران في الطريق الطويل، وقلبه يضرب في عنف، حتى يكاد الرائي أن يشهد الضربات تحت ثيابه، وأنفاسه لاهثة، وشعور بالاختناق يطبق على صدره وحنجرته، حاول أن يتحدث بأي كلام، فاحتبست الكلمات في حلقه، وأخذ يبتسم في بلاهة تثير الشك والريبة..


وحضر الوالي شريف باشا بنفسه، وأحضروا له سليمان الذي أنكر علمه بأي شيء..

- (ما هي معلوماتك يا سليمان عن الإعلان؟).

- (الأب توما وضع إعلاناً على دكاني وانصرف).

- (بأي برشانات ألصقها البادري..؟؟).

- (ببرشان أحمر وآخر ليلكي (بنفسجي غامق)).

- (كيف عرفت هذه الألوان مع أنها تحت الورقة؟؟ ولماذا وُضع الإعلان في مكان مرتفع؟ وكيف وصل الأب توما لهذا المكان المرتفع؟؟).

قال سليمان وقد داهمه ارتباك ظاهر:
- (كنت أرى المارة يعبثون بالإعلان ويلمسونه، فخفت عليه من التلف والضياع، فأخذته من محله الأصلي وألصقته في مكانه الحالي..).

- (ألا تعلم أن باقي الإعلانات كانت ملصقة بطريقة مغايرة للطريقة التي لصق بها الإعلان على باب محلك..؟؟).

- (كيف؟؟..).

قال شريف باشا:
- (الإعلانات الموجودة على الكنائس الفرنساوية وجدت ملصقة بأربعة قربانات من القربان المستعمل عند الرهبان، والرهبان عادة لا يستعملون البرشان العادي..).

قال سليمان وقد حاصرته التهمة:
- (لا أدري..).

صرخ شريف باشا في غيظ:
- (أنت تعرف الحقيقة..).

- (الحقيقة لا يعلمها إلا الله..).

- (لقد أمرنا الله بالعدل..).

- (أعرف يا مولانا..).

- (وقد أهدر دم رجل بريء صالح دون جريمة ارتكبها..).

- (هذا حرام..).

- (ولا بد أن يظهر الحق..).

- (أتمنى ذلك..).

ودق شريف باشا بقبضته على منضدة صغيرة:
- (نحن مسؤولون عن حماية أرواح الناس ومحاصرة الجريمة..).

- (لقد قلت ما أعرف.. وليس لدي جديد أضيفه..).

سدد إليه شريف باشا نظرات ملتهبة وقال:
- (سنعرف كيف ننطقك بالحقيقة.. خذوه..).


وسيق سليمان إلى الحبس الانفرادي، لكن داود هراري استطاع أن يلتقي به أثناء ترحيله إلى السجن:
- (احذر يا سليمان.. لقد قررنا أن نعطيك مبلغاً كبيراً من المال، تعيش به سعيداً طول حياتك.. ولا تنسَ أن أوامر ديننا يجب أن تحترم.. لا اعتراف حتى لا يعاقب اسرائيلي، أنت تعرف ذلك..).



حينما جلس سليمان الحلاق وحيداً في زنزانته المظلمة حط على قلبه حزن ثقيل، الوحدة والانتظار والخوف تحالفت كلها لسحق مشاعره، وطمس معالم المستقبل أمامه، شعر بضيق بالغ، تذكر بيته وزوجه وأبناءه وأباه، تذكر اللحظات الهنيئة التي يقضيها في محله يحلق الشعر أو يفصد الدم وتساءل بينه وبين نفسه: لماذا لا تكتفي الديانة بالدم المفصود بدل القضاء على الضحية..؟؟.

الأخطر من ذلك كله أن نوازع من الشك أخذت تراود خياله، بدأ يشك في صحة كلام الحاخامات وصحة شروح التلمود، ها هي عقيدته تتزعزع.. لا.. يجب أن يتماسك ويكون مثالاً لليهودي الثابت على مبدئه، يجب أن يصمد للفتنة ويواجه العاصفة بقلب مؤمن، إذا كانت ديانته على حق فإن الله سيحميه وينصره، ومع ذلك فإن الشك يراوده، وبدا الكفاح من أجل مبادئ التلمود أمراً هزيلاً، بل حماقة كبرى، إن العبء ثقيل والتضحية باهظة التكاليف، وسليمان يريد أن يعيش، لماذا دس أنفه في مشكلة كهذه؟؟ آه.. نظرات القس الذبيح تطالعه الآن في ظلام الزنزانة.. في العيون ضراعات قاتلة، يا إلهي!! والرجل شاحب الوجه يستنجد بالمروءة ولا أحد يجيبه، يا إلهي.. كان استسلام القسيس رهيباً.. ما أقسى استسلام الضعفاء حينما يساقون إلى الموت ظلماً.. وأخذ سليمان يتلفت في الزنزانة يمنة ويسرة.. يحاول أن يهرول من الأشباح التي تملأ عليه أفقه الأسود.. (أيها الأب توما.. أنا لم أرد أن أسيء إليك.. لا تنظر إليّ هكذا.. أنا عبد أنفذ ما يأمرني به كبار الرجال.. قرأوا لي في التلمود.. حشوا رأسي بالكلمات المقدسة، وأنا إنسان جاهل.. فقير مسكين..).
انتبه سليمان إلى نفسه، إنه يهذي، أحياناً يتكلم بينه وبين نفسه، وأحياناً أخرى يرتفع صوته على الرغم منه، تحسس الجدران الباردة، ووضع خدّه على الأرض، ثم أخذ يدق الأرض ويدق رأسه في هيستيرية ويصرخ:
- (أنقذوني.. أكاد أموت.. الرحمة).


قدم السجان، نظر إليه بعينين يتقد منهما الشرر.. وللسجان سحنة متميزة لم يعرفها سليمان من قبل، ركله السجان في غلظة ثم هدر:
- (لا أريد أن أسمع صوتك.. أتفهم..؟؟).

انكمش سليمان كفأر مذعور.. رفع عينيه في ضراعة ثم هتف:
- (أليس لك أولاد؟).

- (أتريد أن تذبحهم؟؟).

- (أنا مسكين، أنا لم أرتكب جريمة..).

انحنى السجان صوبه، أمسك بكتفيه ثم جره خارج الزنزانة:
- (خير لك أن تعترف.. أنا أعرف جيداً كيف أقنعك بقول الحقيقة.. وشريف باشا وعد بالعفو عنك إذا اعترفت.. سيكتب لك (فرماناً) بذلك.. إنها صفقة رابحة.. ولا بد يوماً ما أن تعترف، ولكن الاعتراف اليوم له قيمة.. وغداً لا قيمة له.. أنت ذكي وتفهمني).

أحنى سليمان رأسه وقال:
- (لا أستطيع الصبر.. لا أستطيع..).
الخديعة الكبرى التي وقع فيها سليمان هو أنه كان يظن أن النجاح كان حليفه، ولن يستطيع أحد أن يميط اللثام عن الجريمة، وكيف لا يطمئن باله وهو يرى أنها دبرت بليل، وأشرف عليها جمهرة من كبار رجال الدين والمال، وأن آثارها قد عفي عليها تماماً؟؟ فهو لم يشارك في الجريمة شجاعة منه أو استهتاراً بما يتبعها من نتائج، وإنما شارك ثقة منه في عدم القدرة على اكتشافها، أما وأن أصابع الاتهام تشير إليه والشبهات تحاصره من كل جانب، والدائرة تضيق من حوله، فلابد أن يفكر تفكيراً عاقلاً رزيناً، فالزنزانة شديدة السواد مخيفة، والوحدة قاتلة، وهو يخاف عيون السجان ونظراته القاسية، وثقته في كلمات الحاخامات أصبحت ضعيفة، واحتماؤه برجال المال – ذوي السلطة والنفوذ – لم تعد ذات جدوى، فلماذا لا يفكر بمنطق التاجر؟ لماذا لا يفكر في مصلحته الذاتية دون اعتبار للواجبات الدينية أو علاقات الصداقة؟؟


قال سليمان حينما أحضروه أمام المحقق:

- (لقد رأيت الأب توما عند العصر يسير مع داود هراري وأخويه هارون وإسحاق، ويرافقهم يوسف لينيادو والحاخام موسى أبو العافية والحاخام سلانيكلي.. وكانوا جميعاً داخلين في شارع الثلاج المتفرع من حارة اليهود حيث يوجد منزل داود، ويستطيع الباشا أن يستحضرهم لكي أعترف أمامهم بذلك، وأواجههم بالحقيقة، وقد مر هنا منذ فترة وجيزة (إسحاق بتشوتو) صديق آل هراري، وهو تحت الحماية النمساوية، وسألني هل اعترفت بشيء؟ لما أجبته سلباً قال لي: (سأتوسط في خلاصك) وتركني ومضى.. ولو كنت أعلم أن مواعيده مواعيد عرقوب لكنت اعترفت فوراً..).


كان هذا الاعتراف، على الرغم من أنه لم يكن كاملاً، ذا أهمية بالغة، إن الحقيقة ستتكشف رويداً رويداً، وصدر أمر الباشا باستدعاء الأشخاص الذين ذكرهم سليمان الحلاق، وكانوا في رفقة البادري المفقود.. أبدى داود دهشته حينما رأى رجال الدولة، وعلى رأسهم (التفتيشجي باشا) يطرقون بابه، وتمتم في شحوب وهو يسرع بارتداء ملابسه:

- (يا للكارثة؟ يبدو أن سليمان قد انهار).

ونظرت إليه زوجه كاميليا في رعب وهتفت:
- (ما معنى ذلك؟؟).

- (اتهام..).

- (شبهة أم اتهام؟!).

- (من يدري؟ قد تكون تحرياتهم قد أثبتت أن البادري كان يسير معنا، وفي مثل هذه الحالة يكون الإفلات سهلاً.. فنحن جميعاً متفقون على الإنكار..).

قالت كاميليا والدموع تبلل أهدابها:
- (ومتى ستعود..؟؟).

تنهد في حسرة وهمس:
- (ليتني أعلم..).

تشبثت بأذيال ثوبه، وأخذت تقبل وجهه وعنقه ويديه ثم صرخت:
- (لن أتركك.. لسوف آتي معك..).

استنكر كلماتها وهتف:
- (مستحيل.. ماذا يقول الناس؟؟).

- (كيف أحيى بدونك..؟؟).

- (نحن لم نرتكب خطيئة، لقد نفذنا أوامر الديانة.. ولن يتخلى عنا الله..).


كان يعزي نفسه في الحقيقة، بل يحاول جاهداً أن يقهر عوامل الضعف والخوف والندم التي أخذت تشيع في جنبات قلبه وعقله، تماماً كما حدث لسليمان وهو في زنزانته المظلمة، إنها لحظات تصيب الكثيرين من رجال العقائد عندما يتعرضون لهزات عنيفة، أو زلزلة قوية، فتجعلهم يعيدون النظر فيما يؤمنون به، وهم في هذه الأوقات يحاولون التشبث بمبادئهم على علاتها، الخاطئ منها والصحيح، لأنهم يشعرون في داخلهم أن نذر التردد والشك تداهمهم فجأة..

وتمتم داود:
- (يجب أن يختفي مراد، وليته يستطيع الهرب.. إنني لا أثق في الخدم، وهم سريعو الانهيار.. مثله مثل سليمان حسبما أعتقد.. يجب أن تهتمي بذلك يا كاميليا..).

قالت في ثقة:
- (اطمئن.. سأخفيه ولن يعثر عليه أحد إلا بأمرك).




وما أن انصرف داود مع (التفتيشجي) حتى أسرعت كاميليا باستدعاء مراد الفتال، كانت تجفف دموعها، وتشعر، رغم كل شيء، بمرارة شديدة من أجل زوجها المسكين، إنها تكره في زوجها أشياء كثيرة، لكنها في هذا الوقت بالذات شعرت أنه زوجها وأبو أولادها، وعماد بيتها، هناك نوع من الرابطة لا يموت مهما اختلفت الأمزجة، وتضاربت المشاعر بين الزوج وزوجه، لقد رأت زوجها يمضي ذليلاً خائفاً وسط رجال (التفتيشجي)، فتمزق قلبها ألماً وحسرة، كاميليا لا تفهم تفسيراً لما يعتمل في نفسها، ومن ثم فهي تترك مشاعرها تنطلق حسب هواها.




قال داود هراري عندما وقف أمام الباشا:
- (لم أنظر الأب توما منذ شهرين أو ثلاثة، وليس من عادتي الاختلاط بهؤلاء الخواجات.. منزلي فعلاً في شارع الثلاج ولكني لا أعرف شيئاً عن ذلك اللقاء المزعوم..).

أما يوسف لينيادو فقد تلعثم قليلاً ثم قال:
- (كنت في منزلي ولم أخرج إلا يوم الخميس قرب الظهر، لأن ابنتي توفيت منذ خمسة عشر يوماً، وعادتنا ألا نخرج من منزلنا مدة سبعة أيام، عند وفاة أحد أقاربنا، وبناء على ذلك فأنا لا أعلم شيئاً عما أسأل عنه الآن).

أما إسحاق هراري، شقيق داود، فقد قال في ثقة وتأكيد:
- (لا معلومات لدي.. أنا تاجر مشغول بتجارتي.. هي كل شيء في حياتي).

أما العجوز يوسف هراري فقد سعل، ثم قال في وهن:
- (منزل في شارع الثلاج، وأنا لا أخرج إلا نادراً بسبب تقدمي في السن، لم أقابل الأب توما منذ ثلاثة شهور.. آه.. لقد ربيت بين المسيحيين.. ينامون عندي وأنام عندهم.. آكل من طعامهم ويأكلون من طعامي.. نحن إخوة أحباء برغم اختلاف الديانة..).

ورفع الحاخام موسى أبو العافية رأسه في اعتزاز ظاهر وتمتم:
- (لم أقابل أحداً ممن ذكرهم الحلاق منذ ستة شهور، ومن المحتمل أن نكون قد تقابلنا مرة بمحض الصدفة ثم افترقنا، غير أني لا أذكر ذلك مطلقاً.. والإنسان مطبوع على النسيان.. وبخصوص الأب توما فأنا لم أره منذ شهرين تقريباً).

وتقدم هارون هراري قائلاً:
- (منزلي مجاور لقنصلية إنجلترا، ولا أذهب إلى إخوتي في حارة اليهود إلا نادراً، لم أتقابل مع الحلاق منذ ثمانية أيام.. أنا من الأشخاص ذوي السلوك الحميد.. لم أجتمع مع هذه الجمعية، هذه التهمة ملفقة ضدنا.. ربما قال الحلاق سليمان ما قاله مخافة الضرب).

أما الحاخام الثاني موسى سلانيكلي فقد أنكر كل شيء بالكلية..




وواجهوا المتهمين بسليمان الحلاق الذي أصرّ على أقواله، بينما أخذ المتهمون يتقدمون إليه واحداً واحداً ويقولون:

-(لماذا تفتري علينا يا سليمان يا حبيبي، أطلب من الله أن ينقذك مما أنت فيه.. لا يمكنك أن تصمم على هذا الكلام المخترع..!!).




لم يزل الطريق إلى كشف غوامض الجريمة محفوفاً بالصعاب، أيمكن أن يكون سليمان كاذباً فيما ادعاه؟ وهل بينه وبين الذين اعترف عليهم عداوة شخصية، أو يريد ابتزاز الأموال منهم..؟؟ إن كل الشواهد تؤكد أن علاقة سليمان بالمتهمين لا غبار عليها، وأن الصلة بينه وبينهم وطيدة منذ زمن بعيد، وهم يثقون به ويثق بهم، وجميعهم من زبائنه سواء في مجال الحلاقة أو الحجامة.. وتمتم حاذق بك المشرف على التحقيق:

- (سليمان يخفي الحقيقة.. ومعنى ذلك أنه ضالع في الجريمة..).


ثم أمر بحبس جميع المتهمين في الزنزانات الانفرادية بحيث يتعذر أن يتصل أحدهم بالآخر، ثم أتى بسليمان وأصدر أمره باستعمال الكرباج.. فصاح سليمان في خوف:
- (لا.. سأقول كل شيء).

وأحاطت به العيون وتلهفت الأسماع، لقد مضى على التحقيق حوالي تسعة أيام من دون فائدة تذكر، ودمشق كلها ساهرة حائرة، الناس يتساءلون، وعلامات الاستفهام ترتسم على الوجوه، في الشوارع وفي البيوت والمحلات التجارية.. في المزارع.. في القنصليات، وقنصل فرنسا يرسل تقارير يومية إلى باريس.. ولابد أن يجيب التحقيق على علامات الاستفهام التي تنطلق في كل مكان.. وإلا حدثت كارثة مدوية..


لم يستطع المحققون أن يقبضوا على اليهودي المعروف (بتشوتو)، وهو رجل داهية غريب الأطوار يعمل موظفاً كبيراً في القنصلية النمساوية، وهو أحد رعاياها، وقد كان يُظن أنه وثيق الصلة بجريمتي قتل الباردي وخادمه.

حتى بعد أن اعترف سليمان بأن (بتشوتو) حذره من الاعتراف ووعده بالخلاص، نفى (بتشوتو) التهمة بشدة، واحتج على ذلك، بل كان يرد على أسئلة المحققين في تبجح وصفاقة.. هذا الذئب الداهية عندما فكر في الأمر أدرك أن سليمان على وشك أن يلقي أمام المحققين الحقيقة كاملة، ففكر هو وجماعة من اليهود أن يقوموا باغتيال سليمان الحلاق، حتى ينقطع خيط التحقيق إلى الأبد، وفكروا أيضاً في قتل الخادم مراد. وبالنسبة لسليمان، لم تنجح أية خطة في التخلص منه، فالحراسة مشددة والسجن لا يُسمح لأحد بدخوله، ومن ثم لم يكن هناك من وسيلة سوى دس السم في طعام المسجونين وهذه الطريقة لا تودي بحياة سليمان وحده، بل بحياة العشرات.. ومع ذلك فإن هذه الوسيلة قد فشلت هي الأخرى مما جعل (بتشوتو) يعاني من همّ قاتل، لا من أجل نفسه فحسب، بل من أجل اليهود المتهمين الذين احتجزوا في الحبس، وأشار إلى (مدام كاميليا) كي تحاول التخلص من خادمها مراد الفتال، فأبدت اعتراضاً وجيهاً:

- (إن الأمور لا تعالج هكذا يا بتشوتو.. سنجر أنفسنا إلى مزيد من المشاكل وسيعرف الجميع معنى ذلك.. إننا بقتلنا سليمان أو مراد سنفتح ملفاً لقضية جديدة، ولن يعدم المحققون وسيلة للسيطرة على أحد الضعفاء فيقرّ بالحقيقة..).

هز بتشوتو كتفيه في أسف ثم قال:
- (اليوم قد يعترف سليمان، وقد تفلت فرصة النجاة إلى الأبد، تذكري أن زوجك يعاني من آلام السجن ومعرض لحكم الإعدام.. ويوسف هراري قد زادت حالته سوءاً..).

هبت واقفة وقالت في حزم:
- (لا أستطيع أن أقرك على رأيك..).

- (كيف؟).

- (في إمكانك أنت أن تفعل ما تشاء، إنك تبحث دائماً عن أدوات لتنفذ لك رغباتك..).

انصرف بتشوتو مكفهر الوجه، وآبت كاميليا إلى حجرتها، وأسرعت إلى زجاجة الخمر، وأخذت تعب منها، ويداها ترتجفان، ثم دارت رأسها، تركت غرفتها، مضت عبر الردهات والممشى الطويل، في آخر الدهليز توجد الحجرة القذرة.. الحجرة المعتمة التي تثير مشاعرها، وتذيب كيانها، وتغرقها في بحر من النشوة القاتلة.. هناك تخبئ مراد اللعين، أحكمت إغلاق الباب من الداخل، قدمت له طعاماً وشراباً، وجلسا يأكلان، أشرقت عيناها بالفرحة الجنونية...

- (لقد أصبحت لي وحدي..).

- (أنا عبدك يا سيدتي..).

- (في نظري أنت من كبار السادة..).

- (هذا كثير جداً..).

- (أيها الأبله.. لا فرق بين غني وفقير..).

- (ولكني خادم..).

وانفجر باكياً، فهتفت:

- (ماذا جرى يا مراد؟؟).

- (أبكي من أجل سيدي.. ومن أجل نفسي..).

- (لا تخف..).

- (الناس يقولون لو لم يأمر الباشا بإعدامنا لأحرقونا أحياء..).

لفت ذراعها حول عنقه وأخذت تلامس شفتاها وجهه وعنقه، لكنه كان بارداً كالثلج، دفعته في غيظ وصرخت:
- (ماذا بك؟؟ لن تستطيع الجن أن تعرف طريقك..).

- (لا أستطيع التخلص من رعبي.. إنه يقهرني..).

- (القضية تافهة.. واليهود سيدفعون مئات الألوف ليضيعوا معالمها، تذكر ذلك جيداً، المال هو خاتم سليمان..).

ثم أخذت ترقص وتهز أردافها وتعب الكؤوس.. وتغني بصوت ناعم غير متسق:
- (لبيك شبيك.. أنا بين يديك..).

وظلت تعابثه.. تشد شعر رأسه ثم تنزع شعرة من شاربه، وتجلسه وتدفعه إلى أمام وإلى خلف.. جفت دموعه وسرى الدفء في جسده، وابتسم. كانت عيناه حمراوين، يتأرجح دون وعي، يضحك ويبكي، وانطرحا على فراش الإثم، لكنها إزاء اللحظات الحاسمة تسمع صرير الباب.. أهي في حلم؟ إنها مجرد أوهام لاشك في ذلك.. وفوجئت بالخادمة (أستير) تقف أمامها ترميهما بنظرات شرسة.. لم يكن لدى كاميليا كلمة لتدافع بها عن نفسها وقد وجدت مع خادمها متلبسة بالجريمة..

- (كيف دخلت إلى هنا؟؟).

- (مفتاح سيدي كان بجيب الصدار..).

- (اخرجي يا كلبة..).

ونهضت وهي غارقة في خجلها وعارها وصفعت الخادمة على وجهها، لم تتحرك (أستير) وإنما ظلت تلهبها بنظراتها القاسية.. بينما طأطأ مراد رأسه في أسى..

- (لهذا تعترضين على زواجي منه..).

- (منذ متى تجرؤين على مخاطبتي بهذه اللهجة..؟؟).

لم تكترث (أستير) وأردفت تقول:
- (شككت في الأمر من قديم.. لكني أردت أن أتأكد بنفسي).

- (من تكونين؟؟ حشرة.. اقتلها يا مراد..).

ضحكت أستير:
- (دمي لا يصلح للفطير المقدس..).

أدركت كاميليا معنى كلماتها، إنها تهدد، ولابد من مهادنتها، لو استطاعت أن تعتذر للخادمة وتسترضيها، فإن ذلك معناه أن تكتم سر جريمة البادري توما، وفي نفس الوقت تغطي على خطيئتها، وبعد ذلك تستطيع أن تتدبر أمرها بهدوء..

- (أستير.. أنا آسفة.. كلنا خطايا.. لحظة ضعف يا حبيبتي.. لقد شربت كثيراً ولم أتمالك إرادتي.. السكارى يفعلون أي شيء.. أما سمعت عن ذلك اليهودي الصالح الذي حاول أن يعتدي على عفاف ابنته أثناء سكره؟؟.. أستحلفك بالله أن تصفحي عني..).

ولم تكتف (كاميليا) بذلك بل زحفت على ركبتيها العاريتين، واقتربت من الخادمة واختطفت يدها وقبلتها وأخذت تتمسح في أذيال ثوبها، وتقول:

- (مراد لك.. لقد وعد زوجي بذلك، وسيدفع لكما المال الوفير حتى تسعدا، وإذا لم يفعل داود ذلك فأنا سأفعله بنفسي، هذا وعد.. ولتغفري لي..).

قالت أستير في ارتباك والدموع تغرق عينيها:
- (عفواً سيدتي.. لقد انتهى الأمر وسأنساه كلية.. وأرجو ألا يترك في نفسك أي أثر..).

وهبّ مراد واقفاً وقال:
- (لن أبقى هنا بعد الآن لحظة..).

استدارت إليه سيدته قائلة:
- (أنت تغامر بمستقبلك ومستقبل سيدك..).

- (سأخرج..).

وقفت كاميليا عاجزة لا تستطيع أن تحسم أمراً، وخطا مراد صوب الدهليز المعتم متجهاً صوب الباب الصغير المفتوح..

وهمست أستير:
- (إلى أين؟؟).

- (إلى الجحيم.. أكاد أختنق.. ليكن ما يكون..).

وتبعته أستير دون أن تتفوه بكلمة، بينما نظرت كاميليا من حولها، كانت وحيدة إلا من المخطوطات القديمة وبعض نسخ التلمود والكتب المقدسة، وصور متخيلة لبعض الحاخامات الأقدمين، وأشياء مهملة، وبعض الصراصير تجري هنا وهناك.. نظرت إلى ما حولها بحسرة، وشعرت أن الحياة تافهة وأن الأيام تعسة لا معنى لها.. وأن ما يجري من أحداث غريبة يكاد يورثها الجنون، فألقت بوجهها على الأرض وأخذت تنتحب بصوت عال..

قال سليمان:
- (أجل يا جناب الباشا.. إن المتهمين السبعة الذين تحدثت عنهم أدخلوا (الأب توما) في منزل داود هراري.. ثم دعوني بعد الغروب بربع ساعة وقالوا لي: قم فاذبح هذا (القسيس). كان الأب توما مربوط الذراعين.. فاعتذرت.. أنا لا أقدر على ذبحه.. ووعدوني بالدراهم، اعتذرت.. ثم سلموني الإعلان الصغير الخاص بالمزاد.. الذي أعطاني الإعلان هو هارون هراري.. أتذكر الآن.. لقد قلت لكم إن داود هراري هو الآخر قابلني بعد ضبطي، عندما كنت منقاداً إلى سراي الحكومة.. واستفسر مني عما إذا كنت قد اعترفت بشيء أم لا، ولما أجبته بما يطمئنه.. أوصاني بالثبات.. ووعدني بمكافأة كبرى.. ثم إن الذي استدعاني من حانوتي للذهاب إلى بيت هراري هو خادم داود واسمه مراد الفتال..).

نظر الباشا الوالي إلى أحد الرجال وقال:
- (استحضروا الخادم مراد الفتال..).

واستمر التحقيق مع سليمان الحلاق..
- (أتقول الحق يا سليمان أم أنك تخاف الضرب وتتهم الأبرياء بالزور؟؟).

- (الحق ما قلت.. ومستعد لمواجهتهم.. ومصمم على كل كلمة..).

- (أكان يوجد بالمنزل نساء أثناء الجريمة؟).

- (لم أرَ غير الرجال السبعة.. والخادم كان في الخارج..).

- (من فتح لك الباب؟؟).

- (داود هراري..).

- (هل بقيت معهم بعد أن رفضت الذبح؟؟..).

- (ذهبت إلى حانوتي.. ثم إلى منزلي..).

- (أكان يمكن سماع القسيس إذا صرخ وهو في الغرفة التي كان فيها؟؟).

- (المنزل محاط بمنازل اليهود من كل جهة، والمتهمون كانوا يمنعونه من الصراخ..).

- (هل كان خادم البادري معه؟؟).

- (الخادم قتل في محل آخر.. والذين قتلوه كانوا متفقين على هذا الأمر مع من قتلوا الأب توما..).



سيق مراد الفتال إلى التحقيق، كان مرتبكاً زائع النظرات، لقد وجدوه لدى بيت داود هراري، وأقر بأن سيده داود قد أرسله فعلاً لاستدعاء سليمان الحلاق، وأنكر معرفته بأي شيء آخر، وزعم أنه عاد إلى بيته بعد استدعاء سليمان، وقرر أنه لم ير أحداً من الرجال في بيت سيده. ثم ووجه داود بكلام خادمه فأنكر وادعى أنه ذهب إلى الجمرك في الوقت الذي يدعي فيه سليمان ومراد أنه اتصل بهما، غير أن شهادة ناظر الجمرك لم تأت في صالحه، وبعد يومين أعيد استجواب الحلاق:

- (من أعطاك الإعلان الذي وجد على بابك..؟؟).

- (هارون هراري..).

- (متى كان ذلك؟؟).

- (يوم الأربعاء 4 ذي الحجة بعد المغرب بنصف ساعة.. وهارون أعطاني برشاناً للصق الإعلان وقد تم لصقه يوم الخميس عند الفجر.. دون أن يراني أحد.. أنا أعلم أن البادري كان قد وضع إعلاناً يوم الأربعاء، وقرأه بعض الناس ثم اختفى ذلك الإعلان.. يبدو أن آل هراري هم الذين رفعوه بدليل أنهم أعطوني غيره كي ألصقه..).



صمم باقي المتهمين على الإنكار ولم يعترفوا بشيء، كان قد مر على اختفاء البادري حوالي ثلاثة أسابيع دون الوصول إلى صورة واضحة حقيقية للجريمة، ورأى الوالي شريف باشا أن سليمان الحلاق لم يزل لديه الكثير ليخبر به، وخاصة أنه ترددت شائعات تقول إن اليهود سيحاولون قتله، كما وأن اليهود أخذوا يحاولون خفية الاتصال ببعض الشخصيات البارزة سواء من الأجانب أو الوطنيين كي يسدل الستار على التحقيق.. وقال شريف باشا بعد أن استدعى سليمان:

- (ممن تخاف..؟؟).

نظر في توسل دون أن يجيب.. فقال الباشا:

- (اعلم يا سليمان إنني أعدك بشرفي أن أعفو عنك، مقابل أن تقول الحقيقة.. حتى تدرأ الفتنة عن الناس، وتكشف الظالمين، وتنجي الأبرياء، لن تخسر شيئاً يا سليمان بل ستكسب الكثير..).

وأقسم الباشا على وعده وأعطاه كتاباً بذلك، فقال سليمان الحلاق وهو يبكي:

- (أرسل داود خادمه مراد في طلبي بعد الغروب.. عندما ذهبت إلى بيته رأيت هارون وإسحاق ويوسف هراري ويوسف لينيادو والحاخام أبو العافية والحاخام سلانيكلي وصاحب البيت داود.. كان الأب توما مربوطاً، يا إلهي!! قالوا: قم واذبح هذا القسيس.. أحضر داود سكيناً.. أنا الذي ألقيت القسيس على الأرض.. واشتركنا جميعاً في مسكه.. أنا الذي وضعت رقبة القسيس على طشت كبير.. وأمسك داود بالسكين وذبحه وأكمل معه أخوه هارون.. لم تقع نقطة واحدة من دم القسيس خارج الطشت.. سكنت حركات الضحية.. ثم سحبناه من حجرة الذبح.. إلى حجرة أخرى فيها بعض الأخشاب ثم نزعنا ثياب القتيل.. وأحرقوها.. عندئذ حضر الخادم مراد الفتال وبأمر منهم قمت أنا والخادم بتقطيع القسيس إرباً إرباً، كنا نضع قطعه في الكيس.. ثم نرميها في المصرف عند أول حارة اليهود، بجوار منزل الحاخام موسى أبو العافية، ثم رجعنا إلى بيت داود.. وانتهت المأمورية. وعدوا الخادم بأن يزوجوه من الفتاة التي يحبها بمالهم.. ووعدوني بالدراهم ثم توجهت إلى منزلي.. هذا ما حدث.. وأنا لم أقل ما قلت إلى بناء على ما يرتضيه ضميري..).

كان الحاضرون، وهم يستمعون إلى سليمان، في غاية الدهشة والعجب، وعلامات الاشمئزاز والتقزز تبدو على وجوههم، وبعضهم دمعت عيناه: أيمكن أن يحدث ذلك فعلاً؟؟

قال الباشا لسليمان:

- (ماذا فعلتم بعظامه؟).

- (كسرناها بيد الهاون.. ورأسه.. كسرناها بيد الهاون أيضاً..).

- (وكيف فعلتم بأحشائه؟).

قال: (قطعناها وأخذناها في الكيس..).

ثم سأل المحقق:
- (من اشترك في التقطيع..؟؟).

- (كنت أنا والخادم نقطعه، والرجال السبعة كانوا يرشدوننا إلى الطريقة.. كان معنا سكين واحدة أتبادلها أنا والخادم.. وهي تشبه سكاكين الجزارين..).

- (على أية بلاطة كسرتم العظام بعد تقطيع الأب توما؟).

- (على بلاطة موجودة بين المربعين).

- (لما كسرتم رأس توما بالطبع كان المخ يخرج منه فماذا فعلتم به يا سليمان؟؟).

- (نقلنا المخ مع العظام..).

وهنا حدث شيء ملفت للنظر، فقد صرخ أحد رجال الشرطة الواقفين، ثم أغمي عليه لهول ما سمع، وعندما أفاق كان يشهق باكياً، فأمر شريف باشا بإخراج الشرطي، كيما يستكمل التحقيق، وبدا واضحاً أن علامات التأثر قد ظهرت على وجوه جميع الحاضرين، بمن فيهم ممثل قنصلية فرنسا والنمسا وإنجلترا.. وقال شريف باشا بصوت راجف:

- (متى تمت الجريمة؟).

- (وقت العشاء..).

- (كم استغرق تصفية الدم؟؟).

رد سليمان:
- (حوالي ثلث الساعة أو نصفها، وهي المدة التي بقي فيها القس موضوعاً على الطشت)..

تنهد الباشا في ألم وقال:
- (ألم يحدث شيء آخر يا سليمان؟؟).

- (كان الرجال السبعة يضحكون ويمرحون ويغنون، بعضهم كان يرقص طرباً هذه الطقوس ضرورية كما في الديانة.. وكانوا يفعلون أشياء كثيرة ليزيدوا من ألم البادري توما.. وكان الرجل يئن ويتوجع بصوت حبيس لأنهم كمموا فاه.. وقالوا له: (كن متألماً كما كان الناصري (عيسى) معلقاً على الصليب.. وليتحصل هذا العذاب لجميع أعدائنا)، هكذا كانوا يرددون).


ثم أجاب سليمان بعد ذلك على أسئلة فرعية كثيرة، منها نوع الكيس الذي وضعت فيه قطع الجثة، ومكان نزع ملابس الضحية، ومَنْ نزعها، ولون ملابس القسيس الخ.. ثم أخذ سليمان إلى الحبس الانفرادي واستدعوا الخادم مراد الفتال وواجهوه بأن سليمان قد اعترف بكل شيء ووعدوه هو الآخر بالعفو، فأدلى باعترافات كاملة تطابقت تماماً مع اعترافات سليمان الحلاق..


وتوجه قنصل فرنسا بسؤال إلى الخادم مراد:
- (ما منفعة الدم عند اليهود؟؟).

- (يستعملونه في الفطير..).

- (كيف علمت ذلك..؟؟).

- (سمعتهم يقولون..).


وقال الأميرالاي حسن بك، أحد المحققين:
(حيث إن اعتراف المتهمين لا يوجد في اختلاف، فلنذهب مع الخواجة (بودين) – مترجم قنصلية فرنسا -، والدكتور مساري، لمعاينة المحل الذي حصل فيه تكسير العظام، ثم نعاين المربع (الغرفة) الذي حصل فيه تقطيع القسيس.. والمصرف الذي ألقيت فيه الجثة، ولنأخذ معنا المتهمين ليدلونا على هذه الأماكن كل منهم على حدة، ولنبحث عن مكان تحويل المياه الجارية في ذلك المصرف عن مجراها الأصلي حتى يمكننا أن نجد البقايا التي رميت فيه..).

فوافق الجميع على ذلك..




ودمشق لا يخفى عنها شيء، وللحيطان – كما يقولون – آذان، إذ سرعان ما انتشرت وقائع الجريمة المروعة، وضرب الناس كفاً بكف، وهم بين مصدق ومكذب، قد يشذ رجل أو اثنان أو ثلاثة ويتصرفون كالحيوانات في لحظة من لحظات الضعف الإنساني، أو الجنون، أما أن يجتمع هذا العدد من الرجال المتدينين والمثقفين، ويقوموا بهذه الفعلة الشنعاء، وعلى هذه الصورة المثيرة، فأمر لا يصدقه عقل.. ولكم أثارت هذه الصورة الذعر في نفوس الأطفال والأمهات بحيث لا تكاد ترى طفلاً إلا وهو في يد أمه أو أبيه.. واليهود لجأوا إلى ديارهم، وكثيرون منهم هربوا خارج دمشق، ولم يعد للمدينة حديث غير قصة الأب (توما) الذبيح، وخادمه المسكين إبراهيم عمار.. واستطاع بعض الشعراء الشعبيين أن يؤلفوا مواويل يرددها الناس في كل مكان.
استطاع سليمان، ومن بعده مراد الفتال أن يرشدا عن مسرح الجريمة؛ هنا البلاطة المشؤومة التي كانت العظام تدق عليها بيد الهاون، هنا المكان الذي قطع فيه اللحم إرباً إرباً، هنا ذبحوا البادري، هنا خلعوا عنه ملابسه، هنا كانوا يغنون ويرقصون ويضحكون كي تكتمل الشعائر الدينية بصورة شرعية، هنا آثار دم على الحيطان.. وأخيراً هنا قذفوا بلحم وعظام الضحية، واستطاعوا أن يستخرجوا بعض العظام واللحم، وكذلك قطعة من طربوش البادري، وأرسلت العينات إلى الباشا حيث تسلمها قنصل فرنسا، وعرضت بقايا الجثة والعظام على لجنتين إحداهما من أطباء الإفرنج، والأخرى من الأطباء العرب المسلمين والمسيحيين، وأما بقايا الطربوش فقد عُرضت على الحلاق الذي كان يحلق عادة للبادري، أقر الأطباء أن العظام والبقايا بشرية وليست حيوانية، كما أعطى الحلاق مواصفات لطربوش البادري، وقدم أدلة مقنعة على أن الجزء الموجود من الطربوش هو للبادري نفسه، لم يخف أمر اكتشاف الجريمة على اليهود المحبوسين في سرايا الحاكم، كل منهم أخذ يفكر في معجزة تنقذه.. أغلب أفكارهم تدور حول اليهود في الشام وأوروبا.. إنهم يستطيعون أن يدفعوا الأموال لإنقاذهم أو يبعثوا بكبار الشخصيات العالمية ليتوسطوا لهم.. يجب ألا ينتظروا أكثر من ذلك..

أما الحاخام موسى أبو العافية فقد جلس في زنزانته حزيناً قلقاً، لم يكن يفكر في إنقاذ نفسه بهذه الطريقة، بل كان يفكر، هل ينقذ نفسه أن يبحث عن الحقيقة؟؟ أكان أولاً على صواب أم كان مخدوعاً؟؟ إنه رجل دين بل يطلقون عليه (العاقل)... هو الذي تسلم الزجاجة التي جمعوا فيها دم الذبيح، أخذها بنفسه وأعطاها إلى (ربي) ديانة اليهود في الشام كلها الحاخام الأكبر يعقوب العنتابي، الرأس المدبر للجريمة كلها، أبو العافية أخفى الزجاجة المليئة بالدم تحت ثيابه، ثم سلمها للحاخام العنتابي وهو جالس في مكتبته الخاصة، قال له العتنابي:

- (سوف نصنع الفطير المقدس، وسنرسل جزءاً منه إلى بغداد، يهود العراق يريدون ذلك، وقد حدثت مكاتبة بهذا المعنى).

أبو العافية يذكر تفاصيل ذلك كله.. يذكر اجتماعه مع العنتابي، ولقاءاته المتكررة مع آل هراري، ورسم الخطة لجر القسيس توما إلى حتفه، الحادث يدور في ذهن الحاخام أبو العافية كشريط طويل مرتبط المشاهد، ويتساءل أبو العافية لِمَ كل ذلك؟؟ إنه سؤال وجيه، الأخطر من ذلك كله هل ورد شيء من هذا في التوراة؟؟ مستحيل أن تطلب التوراة المنزلة من عند الله ذبح المسيحيين لسبب بسيط هو أن المسيحيين لم يكونوا قد وجدوا بعد، إذن، هذه العقيدة الفاسدة مختلقة من أساسها، ابتكرها بعض الحاخامات أو الأحبار الحاقدين أو المجانين.. بالتأكيد!! وإذا كان أمر كهذا يبتكرونه ابتكاراً فكيف ببقية العقائد والتشريعات التي يمتلئ بها التلمود؟؟ وسأل الحاخام أبو العافية نفسه في زنزانته:
ألا يوجد تفسير واحد معقول لهذا التقليد الدموي الرهيب؟؟ أخذ يحك لحيته ورأسه.. نحن نختلف مع المسيحيين حقاً، وننكر نبوة المسيح وألوهيته، ونفتخر بأننا رتبنا مسألة صلبه، ونؤمن أيضاً بأن المسيح الحقيقي الذي نؤمن به، سيأتي يوماً ما ومعه الفرسان على خيول وجمال لينقذونا، وليحققوا ملك إسرائيل الكبير من النيل إلى الفرات، ويعيدوا بناء أورشليم الخراب التي نبكي عليها من قديم.. ألا يمكن أن نكون مخطئين؟؟ ألا يجوز أننا نكره المسيحيين لأسباب تافهة أو لمجرد مجيء المسيح بتشريعات ووصايا تختلف عما كتبه الأحبار والحاخامات؟ إن الهوى والتعصب إذا دخل عقائد المتدينين، انزلقوا إلى متاهات خطرة وأتوا بأشياء عجيبة لا تمت إلى الديانة بصلة.. أنا لم أسمع أن المسيحيين يسفكون دم أحد ممن يخالفونهم في الدين اعتماداً على عقيدة لديهم، ولم أسمع عن المسلمين أنهم يغدرون أو يقتلون أصحاب الديانات الأخرى أو يمزجون دمهم بدقيق الفطير، إنني لا أفكر في ذلك هرباً من مجابهة الموت أو جبناً من التصدي للقضية التي أحاكم فيها، ليت إيماني بما فعلت كان قوياً، إذن لقلت ما أعتقد أنه الصواب وليكن ما يكون..
يجب أن أعرف الحقيقة.. أنا الحاخام موسى أبو العافية الذي يبصّر الناس بالحقيقة، ويبشرهم بديانة موسى، وهو لا يعرف الحقيقة، ولم تصل إليه ديانة موسى نقية خالية من الشوائب.. يجب أن أعرف الحقيقة أولاً.. وسيّان عندي بعد ذلك أن أموت أو تبرّأ ساحتي وأعود إلى الحياة..

ليكن هذا الحادث زلزلة كبرى هزت جسدي ومشاعري وقلبي، كي أفيق وأبحث عن طريق الحق..


ثم خطا الحاخام أبو العافية في حزم صوب باب الزنزانة، والليل دامس صامت، ودق الباب بيد قوية فأتى الحارس:

- (ماذا تريد؟؟).

قال:

- (أنا الحاخام موسى أبو العافية.. أريد بعض كتب الإسلام والمسيحية..).


لم يفهم الحارس ماذا يريد الحاخام بالضبط، وهل هو يمزح أم يقول الحق، أم ترى أصابته لوثة؟ وما أكثر ما يحدث ذلك بالنسبة للمسجونين الذين لا يطيقون وحدة الحبس وظلامه القاتل، فهتف الحاخام في ضراعة:

- (قل لرئيسك ذلك..).

هز الحارس رأسه ومضى إلى رئيسه الذي اتصل بدوره ببعض الكبار المتصلين بشريف باشا الوالي، وتم للحاخام في اليوم التالي ما أراد.


جلس يقرأ ويقرأ. وكان يقارن ما يقرأه في الديانة المسيحية والإسلام بما قرأه طوال السنين الفائتة في التلمود (لماذا لم أفعل ذلك منذ زمن طويل؟؟).


ثم طلب أحد العلماء المسلمين ليستفسر منه عن بعض القضايا التي تعذر عليه فهمها في الشريعة والسيرة النبوية.. فأحضروه إليه، قال الحاخام أبو العافية للشيخ:

- (رفاقي يريدون أن يخرجوا من هذا السجن الصغير، أما أنا فأريد الخروج من السجن الكبير..).

هز الشيخ رأسه قائلاً:
- (ماذا تقصد بالسجن الكبير؟؟).

(خرافات التلمود التي دبّجها الحاقدون، وعشت في متاهاتها سنين طويلة، دون أن أسمح لنفسي بمعارضتها، أو مجرد مناقشتها.. أيها الشيخ.. كيف أخرج من هذا السجن الكبير؟).

قال الشيخ ووجهه يشرق نوراً:
- (ليس بينك وبين الحرية سوى كلمة واحدة..).

قال الحاخام:
- (ما هي؟؟).

رد الشيخ:
- (لا إله إلا الله، محمد رسول الله..).


دار الحاخام بنظراته فيما حوله، نظر إلى السماء الزرقاء.. كان هناك طائر أبيض يشق أجواء الفضاء، ثم صوت مؤذن ينادي بصوت مؤثر: (لا إله إلا الله، الله أكبر).. يالها من صدفة عجيبة! ولأول مرة يشعر الحاخام أن أفراحاً قدسية في قلبه وروحه أنشودة شجية وتمتم:

-(أيها الشيخ، حدثني عن الله..).

قال الشيخ:
- (ليس كمثله شيء.. عادل برّ رحيم.. بارئ الأرض والسماء، سميع عليم..).

وتساءل الحاخام:
- (يقول التلمود إن الله يبكي من أجل أبناء إسرائيل المعذبين..).

ابتسم الشيخ قائلاً:
- (ما شاء الله أيها الحاخام.. إنه سبحانه وتعالى قوي عزيز.. وكلنا لآدم وآدم من تراب..).

وتمتم الحاخام:
- (أيها الشيخ حدثني عن الله..).

رد الشيخ:
- (يقول: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)..
ويقول: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً..)).

ترقرقت الدموع في عيني الحاخام وقال:
- (زدني.. زدني..).

رتل الشيخ بصوت رقيق:
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً).

-(وعن اليهود ماذا قال؟؟..).

-(قال الكثير.. (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن
يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)).

بكى الحاخام بدموع غزيرة وهو يصيح:
- (ويحي.. ويحي.. كيف لم أفكر وأنا أخوض بحار الضلال؟؟).

وقال الشيخ:
- (تلك مشيئة الله.. فلتنظر من جديد، والمؤمن يرى بنور الله.. الكلام كثير.. وتستطيع أن ترِدَ المنهل العذب بنفسك.. فترتوي من الحقيقة العذبة.. ولتعلم أيها الحاخام أن الله يقول: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ..)).

وقف الحاخام وضم الشيخ إلى صدره وقال في توسل:
- (أين الطريق؟؟).

قال الشيخ:
- (انزع نفسك بقوة من ماضيك العفن، وتخلص من أوزار الأيام التعسة.. ولتلق الله بقلب جديد.. وفكر جديد..).

صاح الحاخام:
- (.. الحرية...).

قال الشيخ:
- (قلت لك ليس بينك وبينها سوى عبارة قصيرة المبنى.. كبيرة المعنى..).

تطلع الحاخام صوب السماء ونادى بصوت يخالطه البكاء:
- (أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله..).

-(بشراك أيها السعيد.. نلت مناك..).

انهالت الاعترافات، حاول الحاخام سلانيكلي أن ينكر، لكن كيف ينكر التهمة وقد اعترف الحلاق والخادم وآل هراري جميعهم ويوسف لينيادو، كما وجدت بقايا الجثة، ومكان الجريمة وأكدت كل الشواهد والقرائن على ثبوت التهمة، كما حضر التحقيق الوالي بنفسه، وقناصل الدول وخاصة فرنسا والنمسا وإنجلترا، ثم أعلن الحاخام موسى أبو العافية إسلامه وتسمى باسم (محمد أفندي أبو العافية) وكان إسلامه ضربة قوية للتجمع اليهودي وللمخطط الصهيوني، الذي يسيرون عليه، إذ أن إسلامه يعني الاعتراف بالجريمة، والنفور منها، وإظهار الديانة اليهودية بمظهر يسيء إلى الإنسان وكرامته، وإلى تلك العقيدة.

وأخذ الناس يناقشون سر فساد اليهود، أهو لطبيعة موروثة فيهم؟؟ أهو بسبب هذه التعاليم التي اخترعها طائفة من الأحبار الحاقدين وتربت عليها الأجيال لقرون عديدة؟؟ أم هو الطمع اليهودي الذي يريد أن يستغل الناس، ويستولي على مقدراتهم، وينظر إلى غيرهم من الأمم (أبناء نوح) – كما يقولون – على أنهم دونهم من حيث الفكر والروح ووظيفة الحياة؟؟ أم لهذه الأسباب مجتمعة؟ هذا الجدل الحامي الذي ساد أنحاء دمشق والشام، انتقل إلى شوارع القاهرة وبعض المجتمعات الأوروبية، الجميع آمنوا بأن هؤلاء المخدوعين عنصر فساد، وأداة بغض، ورمز انحراف وضلال، وأن وجودهم خطر على البلاد التي يعيشون فيها، وجرت اتصالات كثيرة وعلى أعلى المستويات لإثناء الحاخام أبو العافية عن اعتناقه الإسلام، وبذلت له الوعود الخلابة أحياناً، والتهديدات أحياناً أخرى لكن الرجل أبى أن ينحاز إلى الضلال، وقال في ثقة:

- (لم يبق لي من العمر إلا قلة، وتجربتي الطويلة أثبتت فساد ما كنت مقيماً عليه من عقائد، إن الفكر هو سيد الموقف، وأنا أرى وأسمع وأقرأ وأناقش، دون التزامات مسبقة أو انتماءات قديمة، وقد وجدت أن الإسلام هو الدين الحقيقي، ولا يهمني - وقد وصلت إلى الحقيقة - أن يحكم عليّ القضاء بالموت أو يطلق سراحي، ولا أبالي أسخط اليهود أم رضوا، خسرت الملة اليهودية أم كسبت، إن ما أفكر فيه هو الحقيقة، وقد نزعت العصابة السوداء من فوق عيني، وانطلقت إلى عالم الحقيقة، حيث الحرية والنقاء والإخاء.. حيث الإيمان الذي لا لبس فيه ولا غموض ولا انحراف، قال شيخي المؤمن الجليل: (إن الإسلام يجُبّ ما قبله)، وهأنذا أولد من جديد برغم شيبي وممارستي للطقوس الرهيبة في الليالي الحالكة السواد.. نظرات البراءة في عيني القسيس توما تؤرقني.. دمه النازف يصرخ بي.. كنت أراكم يا معشر اليهود كالذئاب الجائعة وقد انقضّت على الفريسة، وإذا كان للذئب عذر في أن الفريسة هي طعامه، ومن حقه أن يلتهمها، فماذا كان عذركم، الفطيرة المقدسة؟ يا للمهزلة!! وما يحتويه الفطير من أسرار غريبة وتأثير سحري؟ يا للخرافة!! لن يعود الشباب يا داود.. ولن تنتصر أيها الحاخام العنتابي وتسود العالم، ولن تكسب الملايين يا هارون ولن تدخل الجنة يا يوسف لينيادو.. أيها الحمقى المخدوعون..).


وجلس الحاخام أبو العافية، أعني محمد أفندي أبو العافية، يسطر للوالي شريف باشا هذه الرسالة التي ما زالت مخطوطتها باقية. التاريخ يوم الثلاثاء في 7 محرم سنة 1256 هجرية، صورة تقرير محمد أفندي أبو العافية المحرر بخطه مرفوع للأعتاب الشريفة:

(حيث صدر الأمر الكريم، نحرر الذي نعلمه في قضية قتل البادري توما، وبما أني قد صرت من المؤمنين بالله تعالى ورسوله سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، يلزمنا أن نقول الحق.. إن الحاخام العنتابي (ربي) ديانة اليهود في الشام، تكلم معنا قبل الجريمة بعشرة أو خمسة عشرة يوماً.. وقال إنه يلزم له دم، كما أوصت الديانة اليهودية، وقد اتفق مع داود هراري وإخوته على تنفيذ ذلك في منزلهم.. الخ..).

واستطرد محمد أفندي أبو العافية في خطابه الطويل بلغة عامية ركيكة يصف تفاصيل كل ما حدث إلى أن قال في آخر خطابه: (والدم المطلوب عند اليهود لأجل الفطير الذي يصنعونه يوم وقفة عيدهم.. وقد فعل اليهود ذلك أكثر من مرة وقبض عليهم وسيقوا للحكام.. وهذا القضايا مذكورة في كتاب يتداول بين اليهود اسمه (سفر دهدوروت) حيث يزعم هذا السفر إنها تهمة باطلة.. ولا شك أن القضية المطروحة الآن تظهر الحقيقة جلية).

الآن عبدكم مستجير بالله تعالى ورسوله سيدنا محمد، وقد هدانا الله إلى دين الحق آملين العفو من مراحم دولتكم والأمر لمن له الأمر.. أفندم).

توقيع
محمد مسلماني
(الحاخام موسى أبو العافية سابقاً)





وعُقد مجلس كبير حضره شريف باشا وقناصل الدول والمحققون، وحدثت مواجهة بين محمد أبو العافية وربي ديانة اليهود بالشام الحاخام العنتابي، المحرض الأول على الجريمة، وكانت هذه الجلسة من نوع فريد، فقد أحضر أبو العافية كتباً يهودية، وأسفاراً وشروحاً قديمة وأخذ يستخلص منها العقيدة اليهودية المحرفة، ويعرضها أمام الحاضرين، ثم يناقشه فيه العنتابي، ويوافق عليها، وقد يزيد في شرحها. كما تقدم الكثيرون من الحاضرين ببعض استفسارات وأسئلة كثيرة أجاب عليها العنتابي وأبو العافية، وسجلت كلها في محضر الجلسة، ووقع الحاخامان بالعلم والموافقة، مذكوراً فيه المراجع والصفحة ورقم المقطع بصورة أذهلت الحاضرين من رجال الدول الأجنبية.. ومما قاله العنتابي:

- (إن كتب اليهود عادة تذكر في مقدمتها أن الكلام يختص بالدول القديمة منذ آلاف السنين، وفي ذلك خداع للناس وتعمية الأمر عليهم، والمقصود منها عدم إثارة المشاكل، والتمكن من طبع هذه الكتب في أوروبا، حتى لا تلفت نظر المسيحيين هناك، وفي معرض الحديث عن بعض الأماكن البيضاء في كتب اليهود والتي لا تكتب فيها كلمة أو عبارة، شرح الحاخامان أن المقصود من وراء ذلك، حذف اسم المسيح والمسيحيين، وهذا عرف متفق عليه بين علماء اليهود، فهم يستطيعون قراءة هذه الفراغات لكن غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى لا يعرفون..).



وكانت هذه الاعترافات عن العقائد المنحرفة الغريبة في الديانة اليهودية، أخطر بكثير من الاعترافات الخاصة بمقتل الأب توما وخادمه، وهذا ما أزعج الجالية اليهودية في الشام، بل في أوروبا أيضاً، إذ تحركت جمعية الاتحاد الإسرائيلي في أوروبا بسرعة مذهلة، لوقف التمادي في هذا الكارثة، ولم يكن أول طلباتهم إلا التوقف عن البحث في ديانة اليهود ومعتقداتهم، وحذف ذلك كله من محضر الجلسات، وكذلك فعل اليهود المقيمون في الشام وبغداد وغيرهما من الدول العربية وممتلكات الدولة التركية على السواء.



هكذا اكتملت عناصر الجريمة فكراً وتنفيذاً، وتعرى اليهود من فكرهم ودهائهم، ولم يعد هناك على الإطلاق محل للردّ العلني أو الإفلات بطريقة قانونية من المأزق الخطر الذي سببته قضية مقتل البادري توما وخادمه إبراهيم عمار..



وفرك (سانتي الصيدلي) صديق الأب توما يديه في غير قليل من الرضا وقال:
(دم البادري لم يذهب هباءً، وقد حانت ساعة القصاص.. وهذا يشفي نفوس المحزونين).


ارتدت ملابسها السوداء، ووضعت خماراً شفافاً على وجهها الفاتن، وأخذت معها بعض الخدم، وانطلقت إلى سراي الحاكم تريد أن ترى زوجها في زيارة خاطفة، ولم تمتنع السلطات المختصة عن إعطائها ترخيصاً بذلك، وحينما جاء إليها زوجها، كان كالهيكل العظمي، تكسوه جلود شاحبة، وكانت عيناه غائرتين تفيضان تعاسة وألماً، هتفت في حزن:
- (داود).

- (كاميليا.. لشد ما تشوقت إليك!!).

- (أراك مريضاً..).

- (لقد تضعضعت تماماً يا حبيبتي.. لم أعد أحتمل..).

نزلت دموعها في صمت، نسيت كل شيء في ماضيها المضطرب، كان داود تمثالاً مجسماً من البؤس والشقاء وتمتم:
- (إني لا أرى معنى لحياتي المحطمة، ليتني أموت..).

- (لا تقل هذا الكلام..).

- (أنا رجل تقدمت بي العمر، ومن الحمق أن أكذب وأدعي الشجاعة..).

- (لكل شيء نهاية يا زوجي).

- (لشد ما أخاف هذه النهاية يا كاميليا).

وهز رأسه في أسف ولمس يدها في امتنان، ثم قال:
- (ما معنى أن يقضي الإنسان سنواته الأخيرة هكذا؟؟ إن رجلاً مثلي لم يخلق لعناء كهذا، إنني أبحث عن العزاء فلا أجده.. كل شيء حولي يجلله السواد.. المستقبل كالح الوجه، ذهبت نضرة الحياة وحلاوتها.. آه.. كلما فكرت فيما حدث أعجب من نفسي أشد العجب، لم يكن لكل ما جرى مبرر حقيقي.. ليست المسألة دماً وفطيراً مقدساً.. هنا في قلب الإنسان تكون التقوى أو يكون العناء).

أمسكت بيده في شدة وضغطت عليها في ثقة:
- (كن متماسكاً، لا يصح أن يتزعزع إيمانك..).

ابتسم في مرارة:
- (مازلت وسأظل اليهودي الصالح، لن أتخلى عن ديانتي، أنا قوي الإيمان لكني واهن الجسم.. حزين الفؤاد..).

ثم التفت إليها:
- (هل أحضرت شيئاً من شراب..).

- (وطعام.. أيضاً).

- (لا أريد طعاماً، صبي كأساً من نبيذ، وهات التبغ..).

تنهد في حسرة وهو يتناول منها الأشياء، ثم قال:
- (كيف أولادنا؟ إنهم لا يفارقون خيالي لحظة..).

- (أرسلتهم بعد الحادث إلى أقاربهم في بيروت.. ولم يعودوا حتى الآن.. إنهم بخير..).

سعل، ثم نظر إليها في تقدير:
- (ليس لدي شيء أخاف عليه سواكم.. وليس لي في الصبر باع..).

قالت في تلعثم:
- (أليس هناك من وسيلة للخلاص؟؟..).

- (الأمل في قلبي لا يموت..).

- (لِمَ لا تفعل شيئاً حاسماً لتنجي نفسك..؟؟).

كان ذكياً لا يفوته التلميح، وابتسم في مضض وقال:
- (أفهم ما تريدين قوله، تريدين أن أفعل ما فعله الحاخام أبو العافية).

قالت كاميليا في حرج:
- (نحن لا نفكر إلا في نجاتك).

- (مستحيل أن أفعلها).

ومال عليها هامساً:
- (أوروبا تحركت.. ولن يتركونا نضيع سدى..).

- (لم أعد أثق في أحد يا داود، ما المانع في أن تعتنق الإسلام ظاهرياً، وتفعل فعل اليهود؟؟ ألا تذكر يهود (الدونما) في تركيا؟ ألا تذكر آباء لنا أقدمين في أيام مجد الإسلام؟؟ كلهم فعلوا ذلك، وبقوا يهوداً مخلصين.. لم أعد أفكر في أحد سواك..).

تمتم في حسرة:
- (إني أتعذب عذاباً مهولاً.. لا أنام الليل.. تلهبني الأفكار القاسية، لكني لن أحيد شعرة واحدة عن ديانتي.. هناك شيء اسمه الكبرياء.. وهناك شيء اسمه الأمل في أن يعود المجد القديم.. لا تنظري إلى حالنا السيء هنا.. هناك في الخارج يهود حقيقيون يسيّرون دفة العالم، ويمسكون بأزمة المال، ويحركون السياسة.. إنها لصفقة خاسرة إذا أنا غامرت بترك يهوديتي..).

وكاميليا من عادتها أن تقف عاجزة أمام منطق زوجها داود وصلابته، لا تستطيع في يوم من الأيام أن تفند دعاويه، أو تخـَـطـّـيء رأيه، التفكير الجاد يرهقها، تكره الصراع والمقاومة في مجال الرأي، وتكتفي بأي شيء، وتؤمن سريعاً بقول محدثها متى رأت فيه الإصرار، ووجدت لديه المنطق والحجة، أية حجة..
همست في حيرة:
- (لماذا نعيش؟؟).

- (أجيبي أنت يا كاميليا).

- (لننعم بالحياة..).

ضحك ضحكة مُرّة وتمتم:
- (أنا لم أنعم بالحياة قط.. الذهب في يدي وأريد المزيد.. الطعام كثير.. وأحلم بشيء آخر، لديّ البنات مع البنين لكني أشعر بالحاجة والفقر.. أنفق أحياناً عن بذخ.. ولا أستسيغ لذة في ذلك.. ما معنى ذلك يا كاميليا؟ نعيم الحياة ليس هو مصدر السعادة، وظني أن ممارسة الحياة هي السعادة.. أن أحيا وأفكر وأمرض وأشفى وأشبع وأجوع وأتعب وأستريح.. تلك هي السعادة.. هذا ظني..).

لم تفهم كاميليا شيئاً، التصقت به، ضمته إليها في حنان بالغ، شعرت بنتوءات عظامه تغوص في لحمها الطري، تألمت في عمق، أحزنتها حالته التعسة، وتدهوره البشع، أي عذاب بعد ذلك؟

تمتم في انفعال:
- (إذا أنا مت فلا تحزني كثيراً.. أعرف أن النصح في مثل هذه الأمور لا يفيد، لكني أقولها لك صادقاً.. عودي إلى الحياة وانتصري على سخافاتها.. كوني أنت الأم والأب للأسرة).

عادت الدموع إلى عينيها:
- (لا تفكر في أمر كهذا يا داود..).

رد في حسرة:
- (يا إلهي.. إني أتخبط.. يبدو أنني لا أحسن الكلام في هذه الأوقات..)

جفف لها دموعها وربت على كتفها وقال:
- (القتل في كل وقت.. وكل مكان. لست أدري لماذا هذه الضجة كلها من أجل البادري؟ بالأمس أهلكت الحرب الكثيرين، مات رجال.. وأطفال.. وقساوسة.. وشيوخ ويهود.. هل القتل الجماعي مباح وحده..؟؟).

نظرت إلى زوجها في دهشة، إن كلماته عجيبة، يبدو أن تفكيره قد اختل، أيريد أن يرتكب الناس جرائم القتل دون حساب أو عقاب؟!

قالت مستغربة:
- (هل لو قتل أحد من عائلة هراري.. أكنتم تسكتون..؟؟).

ضحك داود في بلاهة وقال:
- (بالطبع لن نسكت.. فرجل من أبناء هراري يختلف عن أي رجل آخر..).

- (لكننا أمام القانون سواء..).

- (إنه قانون ظالم..).

- (كيف؟؟).

- (لقد خلقنا الله أسياداً وحكاماً للعالم، والله في سمائه يبكي من أجلنا ويذرف الدموع حتى..).

قالت في شيء من القلق:
- (كف عن هذا الكلام الآن يا داود..).

نظر إليها قائلاً:
- (يوسف هراري يحتضر.. ويوسف لينيادو مات بالأمس من شدة المرض.. مات البادري فليذهب إلى الجحيم.. وأسلم أبو العافية، العار كل العار له.. وأفشى سرنا مراد وسليمان عليهما اللعنة الأبدية.. سننتظر المسيح الحقيقي القادم هو وفرسانه راكبين الإبل والجياد، وبكاؤنا على أورشليم الخراب سيظل مستمراً حتى..).

وقالت مقاطعة:
- (ويحك! العسكر ينظرون إليك..).

وجاءهما صوت الحارس:
(انتهت الزيارة..).

نظرت إليه في حسرة، وجرّت حطامها، وعادت إلى الطريق.



دمشق تعج بالحياة، والناس البسطاء يمرحون ويأكلون ويشربون، والأغنيات الشعبية – برغم مسحة الحزن – تعمر الطريق، ضحكات تشق عنان السماء.. ورجل نصف عار يتغنى بمدح الرسول، وصبايا في الشرفات يرددن أهازيج الحجيج.. ومئذنة عالية تسمو صوب السحاب وعليها رجل يؤذن للصلاة.. وكنيسة أجراسها تدق، ومزاد علني يرتفع فيه صوت الدلال، والعالم يسير، وأطفال صغار يجلسون في شمس الشتاء الساطعة يقرأون في المصاحف.. الكتب المقدسة في أيدي الأطفال، يا إلهي.. لا أسرار ولا غموض.. الدين للجميع.. ليس هناك أسرار مخبأة في دهاليز مظلمة، وليست هناك طقوس خاصة بالأحبار الكبار أو الحاخامات العظام.. المصحف يقرؤه الصغير والكبير، أكان أبو العافية على حق حينما اعتنق الإسلام؟؟ هذا ما كانت تفكر فيه كاميليا وهي تدلف إلى حارة اليهود..

كان أحد اليهود يقترب منها وهي تمشي في الحارة ويقول:
- (كيف حاله؟).

همت أن تقول لهم إنه في أسوأ حال، وإنه نصف مجنون، لكنها ضحكت ساخرة، وقالت شيئاً آخر، قالت في اعتزاز:
- (داود كالجبل الأشم.. إيمانه أقوى من إيمان الحاخامات العظام).

ولجأت إلى حجرتها فور وصولها، وهربت من الحقيقة المرة إلى النوم العميق، ولم تفق إلا في اليوم التالي، حينما جاءت إليها الخادمة أستير وقالت:
- (سيدتي.. إني راحلة..).

نظرت كاميليا إلى أستير، كانت تحمل في يدها صرة ملابسها وترتدي ثيابها الكاملة، وتمتمت:
- (إلى أين يا أستير؟؟).

- (سأذهب إليه.. إنه ينتظرني.. وسأرحل معه إلى مكان آخر، لم يعد لنا عيش في هذا المكان).

كانت آثار النوم عالقة بأهداب كاميليا، ومع ذلك فقد فهمت بعض ما تقصده الخادمة، وتساءلت:
- (من الذي ينتظرك؟؟).

- (مراد..).

- (كيف..؟؟ إنه في السجن..).

- (لقد صدر العفو عنه هو وسليمان الحلاق.. وغادرا السجن..).

قالت كاميليا وقد وثبت من سريرها:
- (وداود.. ما مصيره؟؟).

قالت أستير متلعثمة:
- (وتم العفو عن أبو العافية..).

- (وداود؟؟).

طأطأت أستير رأسها.. ولم تنطق.
- (تكلمي يا أستير..).

- (لا أعرف.. غير أنهم قالوا إن يوسف هراري مات بالسكتة القلبية..).

ووقفت كاميليا شاحبة، وقالت:
- (هل مات داود هو الآخر؟؟).

- (لا إنه حي.. بكل تأكيد..).

- (لم لا تقولين ذلك منذ البداية؟؟).

وسادت فترة صمت قالت أستير بعدها:
- (أنا لا أتخلى عنك يا سيدتي، لكن الرحيل أمر ضروري.. هكذا يريد مراد الفتال.. والخير أن نرحل..).


عاد محمد أفندي أبو العافية (الحاخام أبو العافية سابقاً) إلى بيته، كان يمشي في حارة اليهود مرفوع الرأس، وكانت النظرات المسددة إليه كأنها سياط حارقة تلهب جسده، ومعاني الحقد تنصب عليه من كل جانب، ولم يجرؤ أحد من اليهود أن يرفع صوته بكلمة.. لكن الأمر كان مختلفاً تماماً عندما بلغ بيته.. اجتمعت الأسرة من حوله، كانوا فرحين بنجاته، قلقين مضطربين من أجل ما حدث، وكان هو يدرك صعوبة الموقف.. وتبادلوا العناق والقبلات، وقال ابنه بعد فترة وجيزة:
- (يا أبي كيف تركت الديانة..؟؟).

قال أبو العافية في ثقة:
- (لقد اخترت طريقي.. وأنا لم أترك الديانة لأسقط في فراغ، ولكني تدينت الديانة الحقيقية حسبما أعتقد الآن..).

ردّ الابن:
- (لندع الحق والباطل الآن.. المهم سمعتنا وشرفنا بين اليهود..).

ابتسم محمد أفندي أبو العافية وقال:
- (أمام الله في الآخرة.. سوف نقف فرادى، لن يحمل أحد عن أحد عقابه، ولن يشفع حاخام لرجل أو امرأة من أتباعه.. بل سيتحمل أوزاراً على أوزاره، دون أن ينقص ذلك من أوزار تابعه.. فلتمت كل السخافات القديمة التي أفنيت فيها عمري.. أيها الأبناء.. من اليسير أن يضحي المرء بنفسه ويتقبل الموت بشجاعة، وقد كنت على وشك أن أفعل ذلك، لكن يجب أن تدركوا أن الشجاعة الحقيقية هي أن تنتزع نفسك من عفن الماضي الذي درجت عليه، الشجاعة أن تختار، والجديد دائماً يبعث على الشك والخوف.. لكي تكون مسلماً لابد أن تكون حراً شجاعاً، عندئذ تصل إلى الجنة الحقيقية..).

ثم أخذ يخاطب أفراد بيته واحداً واحداً، حتى الأطفال كان يحادثهم، لم يجب أحد، وقفوا صامتين حائرين، عندئذٍ قال:
- (أنا لا أفكر في الشكليات والمظاهر التافهة.. لا يهمني ما يقوله اليهود أو غير اليهود.. القضية قضية حق.. أو باطل.. خطأ أو صواب.. وأنا اخترت ما أعتقد أنه حق وصواب وليكن ما يكون.. ذلك جوهر الأمر كله..).

ثم نظر إليهم مرة أخيرة، وقال عبارة جامعة فاصلة:
- (يا أهل بيتي.. لسوف أغادر حارة اليهود إلى الأبد.. سأغادر حارة اليهود.. أتفهمون؟ ومن أراد منكم أن يتبعني.. فليتبعني.. وسأعيش هناك، إلى جوار المسجد الأموي العريق.. وعندما يؤذن المؤذن للصلاة،
فسأكون إلى جوار المنبر في الصف الأول..).

وتركهم وانصرف.
وعاد سليمان الحلاق هو الآخر إلى بيته، استقبله أهله بحرارة بالغة، لم يعتب عليه أبوه، ولم تلمه زوجه، بل فتحت ذراعيها لاستقباله، اليهود في الحارة يدركون أنه فتح الباب للفضيحة، وشهد ضد إخوانه، ولم يستطع أحد أن يسد الثغرة التي فتحها بيديه، ولم يكترث لذلك كثيراً، فهو وحده يعلم الظروف القاسية التي رزح تحت أعبائها، وليس حريصاً على أن يلتمس المعاذير لنفسه أو يشرح وجهة نظره لليهود، ولا يفكر مطلقاً في أن يدافع عن انهياره، سيان عنده أن يقول الناس لقد ضعف سليمان وخان الأمانة، أو يقولوا كان الله في عونه، لقد تحمل أقصى ما يستطيع، ولطاقة الاحتمال لدى الإنسان حدود.. فليقولوا ما شاءوا، لقد أراد أن يتخلص من هذه الورطة، وخرج إلى الوجود من جديد، الحياة عند سليمان أثمن وأعظم من المبادئ.. أروع شيء أن يعيش الإنسان، أما الموت والسجن فكلاهما أمر رهيب، من الصعب أن يطيقه البشر.

قالت له زوجه:
- (فيم تكفر يا سليمان؟؟).

قال بوضوح لا كذب فيه ولا زيف:
- (أفكر في نفسي وبيتي..).

قالت ببساطة:
- (هذا عين العقل..).

أردف سليمان شارداً:
- (وتعلمت شيئاً لا أنساه مطلقاً..).

- (ماذا..؟؟).

- (الأمن هو أعظم ما في الحياة..).

- (أجل..).

- (ولا يهم بعد ذلك يا زوجتي أن يكون الإنسان غنياً أو فقيراً، الأمن كنز ثمين وسعادة كبرى..).

قالت:
- (أو تعتقد أن اليهود سيتركونك في حالك..؟؟).

قال في ثقة:
- (لن يجرؤوا على أن يفعلوا شيئاً، لقد اعترفنا جميعاً.. ولا يجهل أحد الظروف التي أرغمتنا على إظهار الحقيقة..).

قالت وهي ترمقه في تساؤل:
- (ظنوا أنك على وشك أن تعتنق الإسلام كما فعل أبو العافية).

رد بهدوء:
- (لم أفكر في ذلك بعد أن وعدوني بالعفو.. كنت أريد العفو بأي ثمن وقد حصلت عليه).

قالت:
- (معنى ذلك أنك..).

قاطعها قائلاً:
- (أجل لو لم يكن هناك من وسيلة لأنقذ نفسي سوى الإسلام لفعلت، لكن الظروف لم تلجئني إلى ذلك لحسن الحظ.. قلت لك إن حياتي وأهل بيتي أهم لدي من كل مبادئ الدنيا..).

اقتربت منه ثم التصقت به وهمست في أذنه:
- (إني لجد سعيدة بأنك لا تفكر إلا في نفسك وأهل بيتك..).

نظر إليها في شوق ولهفة ثم توجه إلى أبنائه وقبلهم في حرارة وقال:
- (اذهبوا إلى جدكم في الحجرة الثانية..).

وأردفت زوجه:
- (هيا يا أحبائي.. أبوكم متعب ويريد أن ينام..).

عندما انصرف الأبناء قال سليمان في توتر:
- (ها قد عادت الأيام يا زوجتي.. وكان يجب أن تعود.. وبأي ثمن..).
ثم ضمها إلى صدره في شوق جائع..



وفي اليوم التالي ذهب إلى حانوته، في الطريق لاحقته العيون والتعليقات الهامسة، بعضهم اقترب منه وصافحه، وآخرون بصقوا على الأرض بالقرب منه، تناثرت من حوله كلمات بذيئة، تجاهل السخافات والتعليقات الجارحة، ثم فتح باب الحانوت، أزال الغبار عن المقاعد والآلات والنوافذ، وجلس ينتظر، وبقي فترة طويلة، دون أن يأتي إليه زبون ليحلق شعره، ليكن فالأمر يحتاج إلى وقت، وكثير من الناس لم يعلموا بنبأ خروجه، وكثير من اليهود سيقاطعونه بالتأكيد، هذه المقاطعة لن يعبأ بها، والزمن كفيل بمحو الكثير من سوء الظن.. وليس عليه سوى الصبر.. وقبيل الظهر فوجئ سليمان بأعداد كبيرة من الناس تهل عليه.. ابتسم خفية.. ثم بدأ يمارس عمله وسط الصمت المتوتر.. وبعد فترة لا يدري سليمان أطالت أم قصرت، وكان يحلق شعر طفل صغير، قال الطفل:
- (حاذر.. إياك أن تذبحني كما ذبحت البادري.. إنني أخاف منك خوفاً شديداً..).

وضجّ جميع الحاضرين بالضحك.

- (أنا لم أذبحه يا بني..).


وكان هذا الحديث العابر بداية لنقاش طويل، انهالت الأسئلة والاستفسارات على سليمان الحلاق، كان حذراً، حاول أن يهرب من الإجابة، ولم يشف شغفهم للحديث وكان يقول:
- (أنا رجل حلاق مسكين لا دخل لي بشيء..).

- (كيف مات يوسف لينيادو يا سليمان؟؟).

هنا استطاع أن يجيب:
- (كان مريضاً فمات.. لا دخل لأحد بموته.. لا تصدقوا ما يشاع، إنني أقول الحقيقة.. لم يتعرض لأي أذى..).

قال زبون يجلس قرب الباب:
- (وهناك شائعة تقول إن يوسف هراري هو الآخر مات..).

ردّ سليمان:
- (تركته مريضاً يصعد أنفاسه في صعوبة.. إن الشيخوخة والمرض لا يمكن أن يدعاه يعمر طويلاً.. أنتم تعلمون أنه مريض منذ زمن بعيد.. وأنا لا أكذب شائعة موته لقد تركته يحتضر..).

واقترب أحد الزبائن من سليمان وهمس:
- (أنت نذل..).

نظر إليه سليمان في رقة، لم يثـُر أو يحتد، وإنما قال:
- (سامحك الله..).

- (كان الأوفق أن تجلس في البيوت مع النساء..).

- (أنا لا أنقم عليك ولكني أرثي لحالك.. ولن تفهم لغتي لسبب بسيط، هو أنك لم تخض التجربة).

ثم التفت سليمان إلى الحاضرين وقال:
- (من عليه الدور في الحلاقة يتقدم..).


وواصل سليمان عمله دون اكتراث، لكنه لاحظ أن كثيراً من الأولاد والنسوة والفتيات والفتيان كانوا يمرون في الشارع أمام حانوته، ويسترقون النظر إليه، وكان سليمان يرى من خلف البراقع فضولاً كبيراً، وحاول ألا يهتم بذلك.


وفي المساء دُق باب بيت سليمان، وقال لزوجه في إصرار:
- (لا تفتحي الباب لأحد..).

- (لعله أحد الأصدقاء..).

- (ليس لي أصدقاء، ليذهبوا إلى الجحيم..).

- (لعله مريض يريد علاجاً منك..).

- (لن أمارس مهنة الطب بعد اليوم، تكفيني الحلاقة، ولن أذهب لبيت أحد، ولن أغادر بيتي في المساء لأي سبب كان..).

لكن الدق مستمر على الباب، قالت زوجه:
- (لسوف أذهب لأرى من الطارق دون أن أفتح الباب..).

عندما ذهبت إلى الباب هتفت بصوت خفيض:
- (من؟؟)

وجاءها صوت في الخارج:
- (افتحي.. أنا مراد الفتال.. افتحي.. إنني أعرف أنه هنا.. أريده لأمر هام..).

ترددت برهة، لكن سليمان أشار إليها بأن تفتح، ودخل مراد ومعه أستير، قال مراد:
- (حكموا على الباقين بالإعدام..).

قال سليمان ببرود:
- (هذا لا يهمني في كثير أو قليل..).

- (وأنا سأغادر دمشق.. أنا وأستير..).

قال سليمان هذه المرة دون اكتراث:
- (رافقتك السلامة..).

- (وأريد منك قرضاً بسيطاً..).

ضحك سليمان في سخرية:
- (خاوي الوفاض يا حبيبي..).

- (قلت لي في السجن إن لديك بعض المال المدخر..).

هتف في جفاف:
- (لا أريد أن أراك ثانية لقد انتهى كل ما بيننا..).

تساقط العرق على جبين أستير، وارتبك مراد، ثم وقفا، متجهين صوب الباب وبعد أن أغلق سليمان الباب، ضحك في شماتة وقال:
- (لم أعد أكترث لشيء، ولم أعد أعترف بشيء اسمه الصداقة أو الأخوة.. إنني لا أرى حولي إلا وحوشاً في غابة، هكذا الناس.. إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب.. هلمي إليّ يا زوجتي الحبيبة.. لقد أحرقني الخوف والحرمان وأريد أن أعيش.. أعيش لنفسي.. وليخرب الكون كله، وليذهب جميع حاخامات العالم إلى الجحيم.. ولتخرب أورشليم ألف مرة.. سيّان عندي إذا عاد المسيح الحقيقي أو لم يعد..).

ألقي القبض على أغلب المتهمين في قضية مقتل الخادم إبراهيم عمار، وتم فيها التحقيق على وجه دقيق، وصدر الحكم بإعدام المتهمين الذين ثبتت إدانتهم مثلما حدث في قضية الأب توما، وارتاح جمهور الناس لهذه الأحكام الرادعة العادلة..

وفي الرابع من صفر عام 1256هـ الموافق 22 أبريل سنة 1840 أرسل جناب قنصل فرنسا إلى الوالي شريف باشا خطاباً هذا نصه:

(أخبرت دولتكم بإفادتي نمرة 22 بأنه جاري دسائس خفية بخصوص اليهود المحبوسين، وقد علمت أن اثنين يهوديين أحدهما يدعى (ألياهو نحماد) من حلب والآخر (بتشوتو) الذي ورد اسمه في التحقيقات من قبل، وعدا أحد الرجال المشتركين في التحقيق بأن يعطياه مبلغاً كبيراً من المال، لكي يقول أقوالاً مخالفة لما جاء في أقوال المتهمين حتى الآن، وقد وعدوه ببعض آلاف الريالات، وحماية قنصلية، واقتضى تحريره..).

الكونت دي راتي مانتون – قونسلوس دولة فرانسا بالشام.




وردت مكاتبة أخرى من جناب القنصل إلى الباشا تحت رقم 22 مكرر يقول فيها:

(دولتلو أفندم..
من الواجب أن أضيف على كل ما ذكرته بتحريري السابق نمرة 22 المتعلق بمداخلات اليهود ودسائسهم، أن أحدهم طلب من أحد المنتمين لدولة أخرى غير الدولة الفرنساوية أن يجتمعا مع (شبلي أفندي) – موظف في القنصلية الفرنسية – ليتداولوا في قضية مهمة، فصرحت بهذا الاجتماع حباً في الوصول لمعرفة السبب، فقدم اليهودي هذه الطلبات الأربعة:

أولاً: التوقف عن ترجمة الكتب العبرية لأن ذلك مخل بحقوق الأمة اليهودية.

ثانياً: ألا يصير وضع هذه الترجمة أو شيء آخر يختص باليهود في دوسيه (ملف) القضية بل يلزم إعدام أو إتلاف كل ما ترجمه موسى أبو العافية (محمد أفندي أبو العافية).

ثالثاً: أن يصير التوسط لديّ لكي أستحصل من دولتكم على الإفراج عن أحد المتهمين (المعلم روفائيل فارحي)، وهو متهم في قضية الخادم..

رابعاً: أن تجري الوسائط لإبدال جزاء الإعدام المحكوم به على المتهمين بأي عقوبة أخرى.. وبعد انتهاء ما تقدم ذكره يصير دفع خمسمائة ألف قرش (خمسة آلاف دينار عثماني ذهباً) منها مائة وخمسون ألف وقت التصريح بالرضا، والباقي عند نهاية القضية، وإن موظفنا شبلي مفوض في توزيع هذا المبلغ حسبما يراه موافقاً (..........................)

ولديّ كيس به بضعة آلاف من القروش أحضره أحد اليهود، وقد حفظته بصفة أمانة لحين إجراء التحقيق.. الخ).

إمضاء
الكونت دي راتي مانتون – قونسلوس فرانسا بالشام.



وبناء على هذه الإفادات بدأ تحقيق آخر في قضية الرشوة التي أخطر عنها القنصل الفرنسي، وكانت الإدانة واضحة جلية.


كانت كاميليا على علم تام بما يجري من محاولات لإنقاذ المتهمين المحكوم عليهم بالإعدام، وكانت على اتصال بكبار اليهود الذين تزعموا هذه العملية، وخاصة بتشوتو، اليهودي الذي اتهم في قضية الخادم إبراهيم عمار، وشهد عليه الشهود، والذي ظل يتمتع بقسط كبير من الحرية لأنه تحت حماية دولة النمسا.. ولم يفارق (كاميليا) قلقها طوال هذه المدة.. لأنها تخاف المفاجآت، ما يحدث لو فوجئت ذات يوم بجثة زوجها تسلم إليها كما حدث ليوسف هراري، ويوسف لينيادو؟؟ كانت تغمض عينيها عندما ترد هذه الخواطر على ذهنها، وتحاول جاهدة أن تبعدها عنها.. إنها بالتأكيد اليوم لا تريد لزوجها أن ينتهي تلك النهاية المحزنة، هل هي تحبه؟؟ سؤال صعب الإجابة، أهي تكرهه؟ مثل هذه الأسئلة لم تكن تستطيع في الحقيقة أن تجيب عليها بكلمة واحدة حاسمة، لا تستطيع أن تقول (لا) أو تقول (نعم) خالصة من الظلال أو الغموض.. بالأمس كانت تخونه، وكانت تدرك أن هذه الخيانة لها معنى سيء يرفضه المجتمع، ويزعج زوجها لو علم بها، كانت مؤمنة أنها تفعل فعلاً خاطئاً لكنها – مع ذلك – كانت تفعله، وكانت تفترض أن زوجها رافض له، بل قد يسفك دمها لو علم به، وتتصور زوجها غاضب الوجه، مشمئز النظرات، يريد أن ينشب فيها أظافره وأنيابه، كذئب شرس، هذه الصورة المتخيلة لزوجها كانت تثير الكراهية له في نفسها، أما زوجها الذي تعايشه وتخاطبه، ويرق لها ويبتسم عند رؤيتها، ويحاول مراضاتها بشتى الطرق، فهو نموذج آخر غير النموذج المتخيل الرهيب، لم تكن تحمل لتلك الشخصية الباسمة الرقيقة كراهية ولا حقداً، كان زوجها إذن شخصيتين لا شخصية واحدة، وكانت تكره واحدة منها وتحترم الأخرى، وكانت تهرب من هذا التمزق النفسي العنيف إلى الخمر وإلى أحضان الخادم، ويوماً كان لها فلسفة غريبة مفادها أنها تحب زوجها لكنه لا يؤدي معها وظيفة الرجل، وكانت فلسفتها الغريبة تزعم لها أن لها الحق في أن تسد الفراغ القاتل في حياتها، أو النقص القائم في زوجها بأية طريقة، ولو مع خادم.. وما أن جاءت الكارثة، وأُخذ زوجها إلى السجن حتى شعرت بالحرية.. ذاب خوفها ولم تعد تخاف رجلها الشرعي.. فانطلقت تعربد حتى أفاقت على الحقيقة المرّة، حينما أمسكت بها الخادمة أستير وهي في الوضع الشائن، بعدها أفاقت إلى نفسها، أخذت الصورة الكريهة لزوجها تذوي مع الأيام، وانصرفت إلى تتبع المأساة، وبعد فترة لا تدري أطالت أم قصرت، وجدت نفسها تقدس ذكرى زوجها وأياديه البيضاء عليها، وتعودت على الصوم.. ربما عانت الكثير في أيام صومها الأولى لكنها الآن تستطيع أن تصمد.. ومن آن لآخر تراودها خيالات اللذة الآثمة، لكنها سرعان ما تثوب إلى رشدها، وتستمر في صومها، صوم الجسد عن المحرمات.. هي لا تنكر أن لها مع زوجها مأساة من نوع خفي يجهله الناس، وتعرفه هي تمام المعرفة، لكن علاج الأمر لا يكون بالجنوح إلى الرذيلة، أليس بإمكانها أن تنفصل عنه، وتبحث لها عن زوج آخر؟ إن هذا التصرف برغم صعوبته وآثاره المؤلمة قد يكون أليق بها كإنسانة تؤمن بالقيم المتوارثة، والأخلاق المتعارف عليها، وبرغم كل ذلك فهي الآن لا تنظر إلا إلى الرجل الذي يذوي وينتحب خلف القضبان، تريده أن يحيا أولاً، وأن يعود إليها ولتترك ما بقي إلى الله..


انزعجت (كاميليا) حينما علمت أن الوساطة قد باءت بالفشل، وأن التحقيق قد بوشر في القضية الجديدة، قضية الرشوة التي أبلغ عنها قنصل فرنسا، وكانت تعلم كما يعلم الناس أن شريف باشا والي دمشق صعب المراس، وأنه قد يصدر أمره في أي وقت من الأوقات كي ينفذ عساكره الحكم الصادر ضد اليهود، ولذا كانت تجري هنا وهناك وتلتقي ببعض رجالات الدول الأجنبية، وتوعز إليهم أنه إذا لم تكن هناك وسيلة لإنقاذهم فسيضطر بيت هراري كله نساءً ورجالاً إلى اعتناق الإسلام، حتى يفلت الرجال من حبل المشنقة، وفي ذلك عار كبير لليهود واليهودية، ولم يأل اليهود وسعاً في البحث عن وسيلة..
وكاد الحكم أن ينفذ لولا أن قنصل فرنسا رأى أن يُرفع الحكم للتصديق عليه من إبراهيم باشا بن محمد علي، وفي هذه الأثناء جدت أمور مثيرة..

تأزم الموقف، وخاصة في أوروبا، إذ أقام اليهود الدنيا وأقعدوها، بتحريض من جماعة الاتحاد الإسرائيلي في أوروبا، وكان قناصل الدول يرسلون بتقارير وافية إلى عواصم دولهم، عن هذه القضية، ورأى كبار اليهود في أوروبا أن يحاولوا بشتى الطرق وقف تنفيذ الحكم لفترة يستطيعون خلالها أن يجدوا حلاً.. ولن يستطيعوا تعويق القضية إلا بدفع مبلغ كبير من المال لمحمد علي شخصياً، والاستفادة من بعض الضغوط السياسية العالمية، وخاصة أن محمد علي باشا، حاكم مصر والشام في تلك الفترة، يقاوم تياراً جارفاً من العداء التركي وبعض الدول الأوروبية، وكان اليهود الأوروبيون ينظرون إلى القضية على أنها أمر يمس الديانة ومستقبلها، ويمس اليهود ككل في أنحاء العالم الإسلامي والمسيحي، وليس الأمر مجرد عشرة أفراد حكم عليهم بالإعدام، في قضيتي البادري وخادمه. وأجريت اتصالات سريعة وعلى أعلى المستويات مع والي مصر محمد علي باشا، وقدم إليه اثنان من كبار اليهود الأوروبيين ممثلين لجمعية الاتحاد الإسرائيلي هما (كراميو) و(مونتيفيوري) الفرنسيان. استقبلهما محمد علي بالترحاب البالغ بعد أن تسلم الثمن..

قال (كراميو):
- (نحن نلتمس منكم إعادة النظر في الدعوى..).

ابتسم محمد علي في دهاء وقال:
- (أفهم ما ترميان إليه.. تريدان حل الأزمة بطريقة قانونية حتى لا يثور أبناء الشعب ضدي.. تقصدان محاكمة جديدة.. ثم ينكر المتهمون الاعترافات السابقة.. ثم يصدر الأمر بالبراءة..).

قال (مونتيفيوري) اليهودي الداهية:
- (هو ذاك..).

هز محمد علي رأسه قائلاً:
- (ليس لدي وقت لهذا كله، ثم إني لا أخاف أحداً.. الشعب في قبضة يدي، ولا يستطيع أحد أن يعترض على قرار أتخذه.. إن لي رأيي الخاص الذي لا أخاف أن أواجه الناس به..).

وابتلع جرعة من القهوة التركية وقال:
- (سأفعل معكما أحسن من ذلك، هو أني سأخلي سبيل المحبوسين وأأمر بإرجاع الهاربين إلى أوطانهم، وأظن أن ذلك أفضل من إعادة النظر في القضية، لأن إعادة النظر مما يتسبب عنه استمرار الضغائن بين المسيحيين واليهود، وهذا أمر لا أوده، وسأخبر القناصل بإرادتي، وأرسل أوامري الليلة إلى شريف باشا.. إنني أحب اليهود لأنهم شعب مطيع يحب الشغل، وإني سأظهر لكم ما يفيد ميلي إليهم بكل ممنونيتهم..). [هكذا في الأصل].

ثم سلمهما (فرمان) العفو وذكر فيه هذه الألفاظ لشريف باشا:
- (اعف عن المسجونين).




خرج المندوبان وفي يديهما صورة من فرمان العفو، وتوقف (كراميو) لحظة وقال:
- (هذا فرمان خطير يا مونتيفيوري).

- (لقد حققنا نصراً عظيماً، بثمن بخس..).

- (أنت واهم.. لقد سقطنا سقطة كبرى..).

- (ماذا تعني يا كراميو..).

قال كراميو ويده ترتجف بالفرمان:
- (إن كلمة العفو معناها أنهم أدينوا، وفي ذلك فضيحة عالمية وخطر كبير على ديننا).

- (هو صحيح، لكن ماذا نفعل أكثر من ذلك؟؟).




ورأى الرجلان أن يعودا مرة ثانية إلى الوالي محمد علي باشا الذي استقبلهما بالترحاب المعهود.. وقال كراميو في أدب:
- (لقد أردنا أن نبلغ الباشا العظيم أننا قررنا التبرع لحكومته الرشيدة بمبلغ يفوق المبلغ السابق).

ابتسم محمد علي ابتسامة تاجر قديم كان يبيع الدخان في (قولة) وقال وهو يعبث بلحيته الطويلة:
- (لا شك أنكم تريدون شيئاً آخر غير العفو).

أردف مونتيفوري هذه المرة:
- (سنضع المزيد من إمكانياتنا إلى جانبك في حربك مع أعدائك، سواء
من المال أو السلاح أو التأييد السياسي، وسيكون أبناء ملتنا في مصر والشام خداماً مخلصين لك.. بل وفي أوروبا أيضاً..).

انتشى محمد علي من الكلمات الحلوة المفرحة وقال:
- (لا أريد مساومة أكثر.. أوجزوا وأفصحوا عما تريدون..).

- (العفو، أطال الله عمرك، معناه أنهم أذنبوا وثبتت الجريمة ضدهم، ولسوف يعانون من جراء ذلك بعد العفو عنهم..).

ضحك محمد علي ضحكة من أعماقه.. ثم قال:
- (ماذا تظنون إذن؟؟ إنني أثق في شريف باشا وفي قناصل الدول الذين أشرفوا على كل مراحل التحقيق..).

طأطأ الرجلان رأسيهما بينما همس (كراميو) في شيء من الجرأة:
- (التشكيك في الجريمة من مصلحة الجميع..).

هز محمد علي رأسه عنوان الموافق، وأراد أن يُنهي الأمر بسرعة، وتمتم:
- (إن القضية قد اتسعت وشغلت الأذهان، ويجب أن نبتر الاهتمام بها نهائياً..).

ثم أمر بكتابة (فرمان) آخر تحققت فيه رغبة اليهوديين الكبيرين..

(إلى شريف باشا والينا في دمشق..
إنه من التقرير المرفوع إلينا من الخواجات (مويز مونتيفيوري) و(كراميو) اللذين أتيا لطرفنا مرسلين من قبل عموم الأوروبيين التابعين لشريعة موسى، اتضح لنا أنهم يرغبون في الحرية والأمان للذين صار سجنهم من اليهود، وللذين ولوا الأدبار هرباً من تهمة حادثة الأب توما، الراهب الذي اختفى في دمشق في شهر ذي الحجة سنة 1255 للهجرة مع خادمه إبراهيم..
وبما أنه بالنظر لعدد هذا الشعب الوفير، لا يوافق رفْضَ طلبهما، فنحن نأمر بالإفراج عن المسجونين وبالأمان للهاربين من القصاص عند رجوعهم، ويترك أصحاب الصنائع في أشغالهم، والتجار في تجارتهم، بحيث أن كل إنسان يشتغل في حرفته الاعتيادية، وعليكم أن تتخذوا كل الطرق المؤدية لعدم تعدي أحد عليهم أينما كانوا، وليتركوا وشأنهم من كل الوجوه، هذه إرادتنا).

[بصمة ختم محمد علي]

صورة طبق الأصل..




عندما قرأ شريف باشا والي دمشق ذلك (الفرمان) الغريب لهثت أنفاسه، ودارت به الأرض، اشتد به الضيق، وأقعده الخطب الجسيم عن النهوض، ورنت في رأسه كلمة (العدالة).. لم يذبح البادري وخادمه وحدهما، وإنما قطع جسد العدالة إرباً إرباً، سبعة شهور من التحري والتدقيق والتحقيق.. اعترافات كاملة.. شهادات ثابتة.. حتى البلاطة المنفسخة التي حطمت عليها جمجمة الباردي.. وقطع طربوشه.. وعظامه.. والسكين.. ويد الهاون.. تعاليم التلمود الصريحة.. أقوال الحاخامات.. التفاصيل الدقيقة الصغيرة لكل شيء.. يا ضيعة العدالة.. قناصل الدول الذين شهدوا كل شيء.. وتحققوا من كل شيء.. قضية الرشوة الأخيرة.. العدالة.. العدالة.. هاهاها..!

وأخذ شريف باشا يضحك في هستيرية ثم صاح فحضر العسكر، فقال لهم بصوت عال أجش:

- (أفرجوا عن جميع اليهود المسجونين.. تلك إرادة الوالي باشا الأعظم، وليحيى العدل..).

كان ذلك في يوم 5 سبتمبر (أيلول) عام 1840 ميلادية.


ليالي دمشق نومها عذاب، ونهار دمشق عيون وجلة، ووجوه مكفهرة، والأحاديث هامسة مشحونة بالثورة، وعاد الناي الحزين يرتل أنغامه على شاطئ (بردى) ومواويل الحفاة والعراة هي سجل التاريخ الصادق، مواويل ينساب منها الحنين، وتنسكب الدموع..

قال شيخ ضرير يؤم المصلين بعد أن أدى فريضة الفجر:

- (كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، تذكروا يهود بني قريظة.. كانوا يا أبنائي حلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم، اتفقوا معه على أن يردوا كل مهاجم أو معتدٍ على يثرب، وأن يمدوا الرسول صلى الله عليه وسلم بالمؤن والرجال، عند الضرورة، وجاء (الأحزاب) من كل مكان لحرب الرسول صلى الله عليه وسلم، أحاطوا بالمدينة، كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد حفر هو وأصحابه خندقاً كبيراً فلم تستطع الأحزاب أن تعبره.. ولم يبق إلا المؤخرة، ولكن فيها حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود.. وغدَرَ اليهود.. نكثوا العهد.. ظنوا أن انحيازهم لقريش والأحزاب سيقضي على الإسلام والمسلمين إلى الأبد، ولكن الله سلم، وصمد المسلمون، وعصفت الريح وتبدد شمل الأعداء، واستدار الرسول صلى الله عليه وسلم ليُنزِل بالغادرين العقاب، كان عقاباً صارماً لا يُنسى).

ثم تنهد الشيخ الضرير وقال:

- (عن ربّ العزة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: يا عبادي، إني حرّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا.. والظلم أيها الإخوة ظلمات يوم القيامة.. فلتقرؤوا الفاتحة على أن يقصم الله ظهر الظالمين..).

وفهم الحاضرون ما يريد الشيخ أن يقوله، واعتصموا بالصمت، والصمت بركان حبيس لا يدري أحد متى ينفجر، فيدمر ويسحق الأخضر واليابس.. وصحا الرهبان في ذات اليوم في دير (تيرسانت)، وتراصوا للصلاة، كانت الدموع ممتزجة بالتراتيل الحزينة، ومن آن لآخر يرفع المرتل صوته باسم (يسوع)، وقال أحد الحاضرين وهو يسدد نظراته إلى صورة رائعة للمسيح:
- (ماذا أرى؟ إنها.. ليست صورة المسيح.. إني أرى وجه البادري توما..).

وربت أحد الآباء على رأسه في رقة:
- (لا تحزن يا بني.. زعموا أن البادري هاجر.. نعم هاجر إلى الله.. إلى ملكوت السماوات.. وصعدت روحه الطاهرة على صليب قاس صنعه يهود اليوم. دائماً يعبثون بكرامة الإنسان، ويتلذذون بتعذيب الأبرياء، الوحش يا أبنائي يلتهم الفريسة دون حقد أو تشف.. أما اليهود فقد كانوا يغنون ويرقصون ويضحكون، كانت حياة البادري توما عذراء طاهرة شفافة، وصعدت روحه إلى أبينا الذي في السماوات.. مضمّخة بالعطر والعبير والأهازيج القدسية..).

ثم تصاعدت تراتيل الراهبات الشجية توشّي الصمت والظلام بنغم حزين.




وقالت زوجة قنصل من قناصل الدول الكبرى:
- (إن ما حدث يعتبر مهزلة كبرى..).

قال زوجها القنصل ساخراً:
- (لا شك أنها قصة مسلية ومثيرة، وللسياسة أحكام يا زوجتي العزيزة، وميكيافيللي يقول في كتابه (الأمير): (الغاية تبرر الوسيلة..)).




وارتمى رجل سكران على قارعة الطريق وأخذ يهذي:
- (أنا بطل حرب (المورة).. أنا فارس (عكا).. أكلت مع إبراهيم
باشا على مائدة واحدة.. لكني والله ما قتلت البادري ولا أعلم عن الحادث شيئاً..).

وانفجر باكياً فجاء عسكري الدَّرَكْ وأخذ يجره إلى حيث لا يعلم أحد..




أمسكت امرأة صغيرة السن بطفلها ثم قرصته من خده وقالت:
- (إذا لم تسمع كلامي أرسلتك إلى حارة اليهود ليذبحوك..).




وقال يهودي نجار لزميله وهو يدق المسامير في عصبية:
- (إنهم لا يعرفون من نحن، لقد انتصرنا وخرجنا برغم أنف شريف باشا..).

- (آه.. وغداً تنفخ البوق في أريحا..).

- (ونعمّر أورشليم الخراب.. ونرشق راياتنا على أرض (الجول) الجرداء.. نحن كل شيء..).




ومالت راقصة يهودية على ثري من أثرياء الشام في إحدى الحانات، وهمست في دلال:
- (أتخاف مني؟).

رد عليها قائلاً:
- (يا سعادتي وهنائي لو مت بين يديك..).




وبالقرب من المسجد الأموي، وقف بائع الكتب والمخطوطات القديمة يتحدث مع بعض الشباب:
- (انظروا.. هذه كتب قديمة عن ذبائح اليهود، وهذه مخطوطات ألـّـفها علماؤنا الأقدمون عن فظائعهم وتاريخهم، ولكن للأسف أنتم لا تقرؤون..).




وقال رجل يقرأ القرآن على أحد المقابر لزميله:
- (أتعتقد أن البادري سيدخل الجنة..؟؟).
- (وهل آمن بالله ورسوله..؟؟).




أما الصيدلي سانتي صديق الأب توما فقد قال والدموع تترقرق في عينيه:
- (القصة قديمة.. الصراع بين الذهب والمبادئ.. الأنبياء وأتباعهم هم الذين استطاعوا بقوة المبادئ أن ينتصروا على إغراء الذهب، وما أكثر المعارك التي تكون فيها الغلبة للذهب.. للأسف الشديد!! توما ضحية العصر المنهار الذي يحكمه الذهب لا القانون.. توما الذي انتصر على سلطان الذهب القاهر، استطاع الذهب في النهاية أن يهدر دمه، ويضيع القصاص، ويسحق العدالة، ويلوي أعناق الحكام الكبار..).




واحتشد عدد من رجال الشرع والقانون، مسلمين ومسيحيين، وقرروا أن يكتبوا عريضة لمحمد علي باشا ولشيخ الجامع الأزهر يحتجون فيها على (الفرمان)، غير أن (أحد العقلاء) قال لهم:

- (لا تفعلوا شيئاً كهذا، وإلا ألقيتم بأنفسكم في مشاكل لا يعلم إلا الله مداها..).




وتألقت الأنوار في حارة اليهود، وتناهت إلى أسماع أهل دمشق الأغاني والموسيقى الهادرة، والطبول العالية، وامتلأت الحارة الشهيرة بالأعلام والرايات الملونة، وبصورة كبيرة لمحمد علي باشا، وعاد المتهمون إلى بيوتهم، وسط التظاهرات الصاخبة، وتلقت كاميليا زوجها وسط الزحام بالقبلات والعناق دون أن تشعر بأدنى حرج، وابتسم داود لها في ودّ بالغ..

أما سليمان الحلاق فقد بقي قابعاً في دكانه لا يعير الأمر اهتماماً، لكنه فكر في أن يبحث له عن مكان آخر يتخذ له فيه حانوتاً.. إنه يشعر بحصار من نوع ثقيل، لا يلمسه بيديه وحواسه ولكنه يشعر به ككابوس نفسي مرهق..

ومحمد أفندي أبو العافية، بعد أن غادر حارة اليهود إلى الأبد، كان يُرى كل صباح متأبطاً بعض الكتب الدينية والمصاحف، ومتجهاً إلى المسجد النبوي، ولم يعلق على خروج اليهود إلا بعبارة موجزة ذات معنى:
- (ليس المهم أن يخرجوا من السجن أو يبقوا فيه، ولا يهم أن يُعدموا أو تـُكتب لهم الحياة.. إن أخطر سؤال يواجه الإنسان المخلص هو: هل يسير على صواب أم يخوض في أشواك الهلاك والضلال؟؟).




وما أن هدأت الأحوال واستقرت الأمور وكاد الناس أن ينصرفوا عن حادثة البادري ومخلّفاتها حتى قدمت كاميليا إلى زوجها وقالت في هدوء تحسد عليه:
- (آن أن أخبرك بالحقيقة).

التفت إليها في دهشة وقال:
- (ماذا؟؟).

- (لقد قررت الرحيل).

- (كيف؟؟).

- (لقد أديت واجبي ويجب أن تنتهي حياتنا الزوجية)..

- (إنني لا أصدق ما أسمع.. كنت نِعْم الزوجة في محنتي..).

- (أما وقد انتهت المحنة يا داود.. فواجب أن تطلق سراحي).

- (كاميليا حبيبتي.. أنا ومالي وما أملك تحت تصرفك..).

قالت وهي تبتسم في مرارة:
- (حان الفراق.. ولا فائدة).

أحنى رأسه في ذلة.. فهم كل شيء.. اقترب منها في محاولة أخيرة، واختطف يدها وقبلها، ثم أقعى كالكلب على قدميها، فرجعت إلى الوراء بحركة سريعة:
- (لن أرجع في قراري..).

- (افعلي ما شئت يا حبيبتي، لك الحرية في أن تستكملي سعادتك بالطريقة التي ترينها.. لكن لا تتركيني..).

عادت تبتسم في مرارة.. لشد ما تحتقره الآن، تمالكت أعصابها وقالت في قوة وإصرار:
- (أنا خارجة ولن أعود.. وأي كلام بهذا الخصوص لا فائدة منه..).

رآها تسبغ الخمار على وجهها، وتحكم العباءة الرقيقة على جسدها الفاتن، وتخطو صوب الباب في إصرار.. فشعر بقسوة الحرمان، ومرارة العجز.. فهتف:
- (والطفلان؟؟).

دمعت عيناها، وتمتمت:
- (أنا في انتظارهما دائماً.. ولن أتخلى عنهما أو أنساهما..).

وأدرك للمرة الثانية في حياته، وبصورة أعمق وأفظع.. كيف يقاسي المطرود من النعيم، وشعر بكراهية قاتمة للحياة بكل ما فيها، ككراهيته اليوم للفطير المقدس.. بل إنه أصبح يكره كلمة (مقدس) نفسها.. وحاول أن ينهض فلم يستطع وترك لدموعه العنان..
تذييل

قصة بالوثائق

بقلم د. نجيب الكيلاني


لعل من العسير بعض الشيء، أن يكتب الأديب قصة فنية مدعمة بالوثائق، إن الوثائق غالباً ما تأتي جافة مباشرة ولا تهتم إلا بالحقائق المجردة، والصيغ التقليدية والعبارات الركيكة والمتداولة، والوثائق تبرز الحقائق الأولية، ولا تكترث بالأبعاد النفسية للشخصيات، وقد تغيب في ثناياها بعض الدوافع الهامة والأسس الخطيرة.. والفنان الذي يريد كتابة قصة مدعمة بالوثائق لا يستطيع أن يضع الوثائق متجاورة ويتقيد بحرفية التسلسل، وإلا كانت كتابته مجرد بحث تاريخي، أو دراسة قانونية محكمة، وهذا وضع قد يتعارض مع مستلزمات الفن القصصي، ويخرج به عن دائرة الإبداع المطلوب، والإجادة المرجوة، ومن ثم فلا طريق للفنان سوى أن يضع قاعدة عريضة وأساساً متيناً، يقيم عليهما بناءه الفني، ألا وهو الحقائق الكليّة، والاستعانة ببعض الوقائع المبتكرة. ولكي أزيد الأمر توضيحاً أقول: إن الحقائق الكلية، أقصد بها الأمور الثابتة، التي أبرزها التحقيق، وقررتها الوثائق دون شك، أما الوقائع المبتكرة وهي هامة للغاية، فأقصد بها محاولة رسم الخلفية الاجتماعية والعاطفية والنفسية للحدث.

إن زوجة داود هراري (كاميليا) مثلاً لم يُقصد بها سوى إبراز التناقض الحاد، والعفن الاجتماعي، والاضطراب العاطفي، الذي تفرزه التعاليم الزائفة المستقاة من شروح التلمود، وتعززه القيم الفاسدة، التي درج عليها المجتمع اليهودي، بما يسيطر عليه من جشع وأنانية ومادية مفرطة.. (كاميليا) رمز حيوي متحرك وتجسيم لمأساة الضلال اليهودي القديم، وصورة صادقة للعقد النفسية.. التي ينضح بها التاريخ الطويل لملة أصابها الزيف والشطط عبر العصور، وقس على ذلك ما قد يرد من حوار موضوع، أو مواقف متخيلة، لا تتنافى وطبيعة القضية المطروحة، ولا تخرج عن إطار الحدث المثير.

وإذا كان النهر يشق طريقه من المنبع إلى المصب بقوة ذاتية، وفق قوانين أزلية، فإن إرادة الإنسان الفنان كثيراً ما تحفر له الفروع، وتصنع منه الشرايين التي تزيد من فعالية النهر، وترفع من قيمته وجدواه، دون أن يطغى ذلك على الصورة التقليدية للنهر الكبير، المتدفق دائماً من المنبع إلى المصب..

وكان لزاماً من آن لآخر أن أثبت بعض النصوص بحذافيرها، دون أن يتعارض ذلك مع السياق الفني، وهذه النصوص أساسية وهامة، وتشكل جوهر قضية (الأب توما)، وبعض النصوص لجأنا إلى اختصارها، لتؤدي الغرض المطلوب دون إخلال بالحقيقة التاريخية أو الفنية.

إن حقد الصهيونية على المسيحية قديم، ومؤامراتها ضد الإسلام والمسلمين لا تخفى على أحد، وليس وراء هذه القصة من هدف سوى أن تعيد للأذهان حلقة من سلسلة طويلة من العداء الصهيوني، ضد الإنسانية جمعاء، لعل العالم المسيحي والعالم الإسلامي أيضاً يدركان خطر الموقف، وما يحفل به المستقبل من كوارث يطويها الحقد الصهيوني في قلبه الأسود منذ قرون طويلة، ولعل ذلك يكون ناقوساً يدق في عنف يوقظ النيام وسماسرة السياسة، والمتلاعبين بالألفاظ، وأدعياء البطولة، كي يعلموا أن الأمر جدُّ خطير وأن المعركة حاسمة..

ألا وإن الكمال لله وحده، وذلك جهد المقل والله الموفق.











عرض البوم صور إبن الأكرمين   رد مع اقتباس
قديم 10-03-2011, 06:06 PM   المشاركة رقم: 2
المعلومات
الكاتب:
إبن الأكرمين
اللقب:
مدير عام سابق
الرتبة


البيانات
التسجيل: Jan 2011
العضوية: 4124
المشاركات: 2,093 [+]
بمعدل : 0.43 يوميا
اخر زياره : [+]

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
إبن الأكرمين غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : إبن الأكرمين المنتدى : القصص والحكاوى
افتراضي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

هذه الرواية الحقيقية كانت سبب بتسمية حي في دمشق بإسم باب توما .

وهي قصة حقيقية واقعية ترينا واحدة من معتقدات اليهود وغدر هم .

عافانا الله منهم ومن خبثهم









عرض البوم صور إبن الأكرمين   رد مع اقتباس
قديم 10-03-2011, 07:18 PM   المشاركة رقم: 3
المعلومات
الكاتب:
شهاب
اللقب:
عضو
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية شهاب


البيانات
التسجيل: Jan 2011
العضوية: 4061
المشاركات: 4,645 [+]
بمعدل : 0.96 يوميا
اخر زياره : [+]

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
شهاب غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : إبن الأكرمين المنتدى : القصص والحكاوى
افتراضي

اسمح لي ابدي اعجابي بقلمك وتميزك واسلوبك الراقي وتالقك









توقيع : شهاب

نحن سباع البراري

عرض البوم صور شهاب   رد مع اقتباس
قديم 11-03-2011, 07:28 PM   المشاركة رقم: 4
المعلومات
الكاتب:
إبن الأكرمين
اللقب:
مدير عام سابق
الرتبة


البيانات
التسجيل: Jan 2011
العضوية: 4124
المشاركات: 2,093 [+]
بمعدل : 0.43 يوميا
اخر زياره : [+]

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
إبن الأكرمين غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : إبن الأكرمين المنتدى : القصص والحكاوى
افتراضي

حياك الله أخي شهاب وأتمنى من كل الأعضاء أن يمرو عليها لما فيها من حقائق









عرض البوم صور إبن الأكرمين   رد مع اقتباس
قديم 11-03-2011, 08:22 PM   المشاركة رقم: 5
المعلومات
الكاتب:
جلال 2
اللقب:
موقوف
الرتبة


البيانات
التسجيل: Sep 2010
العضوية: 3438
المشاركات: 1,355 [+]
بمعدل : 0.27 يوميا
اخر زياره : [+]

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
جلال 2 غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : إبن الأكرمين المنتدى : القصص والحكاوى
افتراضي

اخوى ابن الاكرمين امن بى الله انى كنت لا اعرف هذه القصة برك الله بك و افضلك الله و مبروك عليك التبوئ الى المنصب الجديد و لا اقصد الاشراف بل فى العمل الف مبروك غليك الحصانة فو الله انت تستاهل اكثرمن هيك انت تستاهل ان تكون وزيرو ليس هذا المنصب الجديد و على كل حال مبروك لى اخوى ابن الاكرمين و اتمنى لك الارتقاء الى اعلى المناصب









عرض البوم صور جلال 2   رد مع اقتباس
قديم 11-03-2011, 08:59 PM   المشاركة رقم: 6
المعلومات
الكاتب:
إبن الأكرمين
اللقب:
مدير عام سابق
الرتبة


البيانات
التسجيل: Jan 2011
العضوية: 4124
المشاركات: 2,093 [+]
بمعدل : 0.43 يوميا
اخر زياره : [+]

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
إبن الأكرمين غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : إبن الأكرمين المنتدى : القصص والحكاوى
افتراضي

بارك الله بك أيها الرجل الطيب ياإبن الطيبين المباركين بالدارين بإذن رب العالمين .

وأتمنى من الباري عز وجل أن يعينني على خدمة المسلمين بالحق ونور هدي رب العالمين .

أشكر لطفك أيها الأخ الحبيب . ولا تنسونا من الدعاء .

وأما هذه الرواية قد دفعت ولا تزال تدفع اليهود الكثير الكثير لتمحوها من الأذهان ولكن الله متم نوره جل في علاه .









عرض البوم صور إبن الأكرمين   رد مع اقتباس
قديم 29-05-2011, 03:38 PM   المشاركة رقم: 7
المعلومات
الكاتب:
ابوتركي الحازمي
اللقب:
مدير عام سابق
الرتبة


البيانات
التسجيل: May 2010
العضوية: 2627
المشاركات: 4,986 [+]
بمعدل : 0.98 يوميا
اخر زياره : [+]

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
ابوتركي الحازمي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : إبن الأكرمين المنتدى : القصص والحكاوى
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ://الاخ العزيز أبن الاكرمين شكرآ بارك الله فيك









عرض البوم صور ابوتركي الحازمي   رد مع اقتباس
قديم 21-01-2012, 12:52 AM   المشاركة رقم: 8
المعلومات
الكاتب:
إبن الأكرمين
اللقب:
مدير عام سابق
الرتبة


البيانات
التسجيل: Jan 2011
العضوية: 4124
المشاركات: 2,093 [+]
بمعدل : 0.43 يوميا
اخر زياره : [+]

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
إبن الأكرمين غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : إبن الأكرمين المنتدى : القصص والحكاوى
افتراضي


حياك الله أيها الحبيب أبو تركي الحازمي وجعلنا الباري وإياكم وكافة المسلمين ممن

يدخلون جنانه بغير حساب









عرض البوم صور إبن الأكرمين   رد مع اقتباس
قديم 21-01-2012, 01:06 PM   المشاركة رقم: 9
المعلومات
الكاتب:
عاشق اللحن
اللقب:
عضو فخري
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية عاشق اللحن


البيانات
التسجيل: Nov 2011
العضوية: 7711
المشاركات: 1,051 [+]
بمعدل : 0.23 يوميا
اخر زياره : [+]

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
عاشق اللحن غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : إبن الأكرمين المنتدى : القصص والحكاوى
افتراضي

بارك الله بك يابن الاكرمين متألق اليوم بمواضيعك









توقيع : عاشق اللحن

سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم عدد خلقه ورضاء نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته

عرض البوم صور عاشق اللحن   رد مع اقتباس
قديم 21-01-2012, 04:50 PM   المشاركة رقم: 10
المعلومات
الكاتب:
إبن الأكرمين
اللقب:
مدير عام سابق
الرتبة


البيانات
التسجيل: Jan 2011
العضوية: 4124
المشاركات: 2,093 [+]
بمعدل : 0.43 يوميا
اخر زياره : [+]

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
إبن الأكرمين غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : إبن الأكرمين المنتدى : القصص والحكاوى
افتراضي

أهلا بأخينا عاشق اللحن الرواية حقيقية

وعلى هذه القصة سمي باب تومة بإسمه والمشكلة أن القصة

إنمنعت بدور النشر وبمعظم البلدان والله يعافينا ويفضح أمرهم









عرض البوم صور إبن الأكرمين   رد مع اقتباس
قديم 05-02-2012, 02:07 PM   المشاركة رقم: 11
المعلومات
الكاتب:
وحيد الجزيرة
اللقب:
عضو فخري
الرتبة


البيانات
التسجيل: Sep 2011
العضوية: 7055
المشاركات: 2,131 [+]
بمعدل : 0.46 يوميا
اخر زياره : [+]

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
وحيد الجزيرة غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : إبن الأكرمين المنتدى : القصص والحكاوى
افتراضي

بارك الله بك اخي ابن الاكرمين متميز دائما









توقيع : وحيد الجزيرة

سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم

عرض البوم صور وحيد الجزيرة   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
-الكاتب, لفطير, نجيب, الكيلاني, رواحة, صهيون


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
خطة بني صهيون خالد عبد الرحيم قسم الفيديوهات العامة 3 28-06-2011 07:48 PM
تمثال الكاتب ماع-نفر بدر الحضارة الفرعونية 4 22-07-2009 02:39 AM
تمثال الكاتب با-رعمسو بدر الحضارة الفرعونية 4 22-07-2009 02:38 AM
الكاتب الجالس بدر الحضارة الفرعونية 1 25-06-2009 02:12 PM


الساعة الآن 07:41 AM.


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir