بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
سمح أباطرة الرومان لأبناء فلسطين بنوع من الحكم الذاتي، ونصبوا سنة (37 ق. م) "هيرودس الآدومي" ملكًا على "الخليل" و"بلاد يهودا"- أو"المملكة الجنوبية" المقاطعة المحيطة بالقدس- "يوديا" الرومانية، وكانت مساحتها نحو ثلاثة آلاف وخمسمائة ميل مربع .
وكان "هيرودس" قد اعتنق اليهودية، وفي سنة (19ق. م) رغب "هيرودس" في بناء الهيكل على طريقة بناء "سليمان"، فقام بهدمه وبنائه ثانيةً، وقد شهدت البلاد نوعًا من الاستقرار والهدوء طوال عهد "هيرودس"، الذي ظل يحكم هذه البلاد باسم "الرومان" حتى وفاته سنة (4م).
وبعد وفاته وقعت البلاد في فتن داخلية، وعظمت الفتن واشتدت ولم تنقطع؛ سواء بين الرومان أنفسهم، أو بينهم وبين اليهود من ناحية أخرى، حتى تحولت "القدس" إلى ساحة حرب، وكثر القتلى في الشوارع والأزقة، وأدَّى ذلك إلى انتشار الأمراض الوبائية بالمدينة، وتعرَّضت القدس للعديد من الكوارث والآفات والأمراض والمجاعات.
وفي عهد الإمبراطور "نيرون" بدأ اليهود في التمرد على حكم "الرومان"، فقام أحد قادة الرومان- وهو "تيتوس"- باحتلال "القدس" في سنة (70م) ، وحرق الهيكل، فلما علم اليهود بهدم الهيكل مضوا وأحرقوا كل ما كان بالقدس من قصور جميلة مع ما فيها من ذخائر وأموال، فرد عليهم "تيتوس" بقتل الكثير من اليهود، حتى قيل إن عدد القتلى بلغ أكثر من مليون، وإن عدد الأسرى بلغ (67) ألفًا، وهي أرقام تتسم بالكثير من المبالغة والتهويل كعادة اليهود في إبراز وتضخيم ما لحق بهم من اضطهاد أو تنكيل على مرِّ العصور، لاستجداء شفقة الضمير الإنساني وابتزاز شعوب الأرض، وتهوين وتبرير كل ما يقومون به من جرائم وانتهاكات في حق أبناء الأرض العربية من شعب فلسطين.
وفي سنة (132م) قام اليهود بالثورة مرة أخرى بقيادة "باركوخبا"، واستمرت هذه الثورة لمدة ثلاث سنوات، حتى قام الإمبراطور "هادريانوس" بإخمادها بعد أن خرب "القدس"، وأبادها نهائيًّا، وقام بتأسيس مستعمرة رومانية جديدة أطلق عليها "إيليا كابيتولينا"، وحرم على اليهود دخول هذه المدينة- وهي التي جاء ذكرها في "العهدة العمرية" باسم "إيلياء"- وأقام مكان الهيكل اليهودي هيكلاً وثنيًّا باسم "جوبيتر"، وظل الهيكل على هذا الوضع حتى اعتناق الرومان للمسيحية.
فلسطين في ظل المسيحية:
ظل الرومان يمنعون اليهود من دخول "القدس" حتى تولى الإمبراطور "قسطنطين" في بداية القرن الرابع الميلادي، والذي اعتنق المسيحية، وأعاد للمدينة اسمها القديم "أورشليم القدس"، وأجبر اليهود في "القدس" على اعتناق المسيحية، فتظاهر بعضهم بالنصرانية، ولكنهم ظلوا على يهوديتهم، ولما امتنع بعض اليهود أن يتنصروا قتلهم، وهدم الهيكل الوثني الذي أقامه الرومان بدلاً من هيكل اليهود.
وأصبحت "القدس" عهد "الرومان" تغلب عليها الصبغة الدينية المسيحية، بعد أن كانت منذ عهد "دواد" وابنه "سليمان"- عليهما السلام- ذات صبغة يهودية، وقد تأكدت تلك الهوية الجديدة عندما قامت الملكة "هيلانة"- والدة الإمبراطور "قسطنطين"- سنة (335م) بزيارة "القدس"، وأمرت بهدم المعبد الذي بناه الوثنيون على جبل (الجلجلة)، وأمرت ببناء "كنيسة القيامة" التي يحج إليها المسيحيون حتى الآن، وأمرت كذلك ببناء العديد من الكنائس والأديرة على جبل الزيتون "الطور"، ومن أشهر هذه الكنائس "كنيسة الجثمانية" و"كنيسة مريم العذراء".
وفي سنة (361م) قام الإمبراطور "يوليان" بزيارة "القدس"، وكان قد عاد إلى الوثنية بعد اعتناقه للنصرانية، فأخذ في حشد اليهود إلى "القدس"، وبدأ في إعمار هيكلهم من جديد .
وفي سنة (591م) أرسل "برويز" كسرى فارس جيوشه إلى "فلسطين"، وأمرهم بتخريبها، فقاموا بتخريب معظم مدن "الشام"، وخاصة "القدس" و"الخليل" و"الناصرة" و"صور"، وخربوا كثيرًا من الكنائس، وقتلوا كثيرًا من النصارى؛ فلما رأى اليهود خلو بلاد "الشام" من "الرومان" اجتمعوا من "القدس" و"طبرية" و"قبرس" و"دمشق"، فكانوا نحو (20) ألفًا، وأتوا إلى "صور" ليستولوا عليها، فعاد إليهم جيش الفرس، وحاصرهم وهزمهم، وقتل كثيرًا منهم.
وظلت بلاد "الشام" في أيدي الفرس إلى سنة (628م)، عندما استعادها" هرقل" ملك الروم ودخل بجيوشه إلى "القدس".