عرض مشاركة واحدة
قديم 19-05-2014, 04:43 AM   المشاركة رقم: 2
المعلومات
الكاتب:
أبو آدم التونسي
اللقب:
موقوف
الرتبة


البيانات
التسجيل: Mar 2014
العضوية: 20200
المشاركات: 43 [+]
بمعدل : 0.01 يوميا
اخر زياره : [+]

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
أبو آدم التونسي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : أبو آدم التونسي المنتدى : الحضارات العامة
افتراضي

إنّ هذه النماذج تظهر تنوّع تعمير الشمال الأفريقي، ولكن ينبغي التنبيه إلى أنّ العصر الذي كانت فيه الملامح العرقية هي الهدف الأسمى للبحث الأنثروبولوجي قد ولّى، وينبغي أن نفهم بأنّ العنصر الأصلي ظلّ يدمج ضمنه على امتداد التاريخ عددا من الأعراق والأنواع وتبيّن الأبحاث الحالية في العالم كلّه كيف أنّ الإنسان كان في جسمه قابلا للتغيّر وحسّاس للتغيّرات ، وخاصّة الاستعداد للتكيّف مع ظروف الحياة ، والملاحظ أنّ نمو القامة في الأجيال الثلاثة الأخيرة هو ظاهرة محسوسة ومعروفة في الرأي العامّ ويسهل قياسها بفضل أرشيف مكاتب التجنيد .
تظهر أعمال أخرى بأنّ شكل الجمجمة قد تغيّر بسبب وراثي كما يقول البيولوجيون دون أي عامل طارئ أو أجنبي،وهذه القابلية للتطوّر والحساسية للعوامل الخارجية يظهر في شريط الحياة ومنه يبدو أنّ التحوّل الوراثي الذي يقول به الأنثروبولوجيون كاف لتفسير التحوّلات البيولوجية دون الحاجة إلى أساطير الهجرة والغزو في تكوين السكّان التاريخيين، ولذلك تصبح مسألة التطوّر المحلّي مقنعة ومقبولة جدّا، أمّا ظهور نوع الإيبرو-جزري داخل مجموعة متوسّطية أفريقيّة فيفسّر بسبب نحافة بسيطة ، ولم تظهر اختلافات في الشكل بين جماجم العهود القفصية والبروتومتوسّطية والحديثة .
يكوّن البروتومتوسّطيون القفصيون بالتأكيد قاعدة التعمير الحالي في الشمال الأفريقي ، ويحاول البعض ربط هذا التعمير بحركة تعمير كلّ البلاد المتوسّطية مع افتراض أنّ منطلق تلك الحركة في عصور ما قبل التاريخ هو شرقي البحر المتوسّط ، مستدلاّ بأنّ تلك الحركة ليست الأولى ، فلقد ظلّ النزوح من شرقي المتوسّط نحو الغرب قائما وهو ما سمّي في المراحل التاريخية بالغزو أو الفتوحات، وتظلّ الفكرتان؛ فكرة الأصول المحلّية والأصول الخارجية تصطدمان ببعضهما ، ويشير الأنثروبولوجيون إلى أنّ البحث في أصل النباتات الزراعية والحيوانات المستأنسة يمكن أن يقيم الدليل على قوّة إحدى الفكرتين لأنّ وجودها يفسّر إمّا بجلبها من قبل محلّيين أو مجيء أجانب بها .
في عصر المعادن ظهر في الصحراء الطرابلسية مربّو الخيول وسائقو العربات وهم فرسان فتحوا الصحراء وسيطروا على الزنوج (الأثيوبيين) هؤلاء الفرسان يسمّيهم المؤرّخون الإغريق واللاّتين الغرامنت (
Garamantes) شرقا والجيتول (Gaetulii) في الوسط والغرب وأحفادهم هم أمازيغ الصحراء الذين سيطروا طويلا على الحرطانيين الذين يبدو أنّهم أحفاد أولئك الأثيوبيين.
نلاحظ خلال فترات الاحتلال الروماني ثمّ الوندالي والبيزنطي حركة كبيرة للقبائل الثائرة خاصّة خارج الليمس الروماني ثمّ في الأراضي ذاتها التابعة للإمبراطورية مثل الكونفدرالية القبلية التي سمّاها الرومان ليواتاي (Levathae) التي كانت متمركزة في القرن السادس في إقليم طرابلس،هذه القبيلة التي ذكرتها المصادر العربية باسم لواتة سوف يمتدّ تمركزها في القرون الوسطى لتستقرّ في المنطقة ما بين أوراس وورشنيس،وهي تنتمي مع عدّة قبائل أخرى إلى المجموعة الزناتية،وهي المجموعة الأحدث ضمن المجموعات الناطقة بالأمازيغية، وتتميّز أمازيغيتها بوضوح عن أمازيغية المجموعات الأقدم التي يمكن تسميتها بقدامى الأمازيغ (Paléoberbères)، وقد أحدث هؤلاء الزناتيون اضطرابات كبرى تضاف إليها الاضطرابات السياسية الدينية والاقتصادية التي ضربت المقاطعات الأفريقية،وسيكون ذلك لصالح آلة الفتح العربي إلى درجة كبيرة،وبعد أربعة قرون من ذلك يأتي اكتساح بدو هلال وسليم ومعقل، الذي ما هو إلاّ حلقة في سلسلة طويلة من الاكتساحات بدأت منذ آلاف السنين،وإذا كان سكّان الشمال الأفريقي قد احتفظوا نتيجة لذلك بتواصل طبيعي بقدر ما هو ثقافي إزاء الشرق الأدنى فإنّ هناك تيّار ثان شمال-جنوب يتقاطع مع الأوّل وهو تيّار قويّ طبع هذه البلاد الغربية بقوّة .
ظهر التيّار المتوسّطي منذ النيوليثي ، فساحل بلاد البربر عرف خلال ذلك نفس الثقافات التي عرفها البحر المتوسّط الغربي مثل أسلوب صناعة الفخار، وقد ظهرت في منطقة الريف تقنيات متميّزة تحاكي الأشكال الصدفية الأوربية، وإلى الشرق تنتشر صناعات مقلّدة قادمة من الجزر الإيطالية في عهود أحدث، ويمكن تفسير توزّع الأوابد الجنائزية كالدولمان والقبور تحت الأرض (Hypogées) بوجود تمركز دائم لمجموعة أو مجموعات متوسّطية قدمت من أوربّا،وهذه مساهمة متوسّطية لها أهمّية ثقافية أكثر منها أنثروبولوجية،ولكن إذا كان لبعض العناصر الثقافية أن "تسافر" لوحدها لأنّها أقلّ التصاقا بالعرق، فلماذا يفترض أنّها على الآرض الأمازيغية من أعمال مجموعات وافدة من أوربّا، فالمرجّح أنّ هذه الأشكال والطقوس الجنائزية تكون قد عبرت مضيق صقلّية وانتشرت في شرق الشمال الفريقي القديم دون الحاجة إلى أن ينقلها وافدون من خارج المنطقة الشمال أفريقيّة.
لا نودّ هنا أن نختصر الدور الأساسي للمجموعة البروتومتوسّطية ،ولكن لا يمكن أن نهمل تلك الإسهامات المتوسّطية الأحدث التي لها أهمّية كبرى على الصعيد الأنثروبولوجي ولكنّها أكثر ثراء فيما يتعلّق بالصعيد الثقافي،ونضيف إلى هذين العنصرين الرئيسيين إسهامات ثانوية قادمة من إسبانيا ومن الصحراء التي سادت فيها عبرالقرون حضارات سكّان الريف في المغرب.
أهمّية الدراسات الألسنية
ما لا يمكن إغفاله في هذا السياق هو إسهامات الدراسات الألسنية في محاولة لتحديد أصول الأمازيغ في سياق كون اللغة هي الطابع الأكثر أصالة اليوم ، وأكثر ما يميّز المجموعات الأمازيغية المتوزّعة في الربع الشمالي الغربي من القارّة الأفريقية .
كيّفت اللهجات (Idiomes) الأمازيغية و"بربرت أو مزّغت" بسهولة عددا من المفردات والأصوات الأجنبية،إذ نجد فيها كلمات لاتينية (14) وعربية كثيرة (% 35 من القاموس القبايلي عبارة عن كلمات عربية(15) إلى جانب كلمات فرنسية واسبانية…، والمحتمل أنّ اللغة الليبية أيضا كانت عرضة لاكتساح كلمات من لغات مجاورة لها، ولكن ينبغي أن نكون حذرين فقد يكون التقارب أحيانا بسبب الصدفة بين الأمازيغية ومختلف اللغات القديمة ، لا كما يعتقد بعض الهواة والكتّاب الجريئين، وفي هذا السياق لم يترك المهتمّون أيّ اتّجاه إلاّ وسلكوه، فبرتولون (Bertholon) يقول بأنّ اللغة الليبية هي لهجة هلّينية نقلها التراقيون (Thraces) والبعض الآخر يرى فيها آثار اللغة السومرية أوالطورانية، وأخيرا وضع البعض النموذج الأصلي الباسكي كقاعدة مشتركة تضمّ الليبي-البربري ، ولكن بمسوّغات ساذجة أحيانا ، أمّا هواة بداية القرن العشرين ، فكانوا يعتقدون في الواقع أنّهم يستطيعون تأسيس تقارب لغوي ضمن سلسلة طويلة من المصطلحات المعجمية موازية لقائمة من اللغة المقارنة، إلاّ أنّ بعض هذه المقاربات لا يخرج عن إطار الفضول.
يدلّ هذا الاستعراض على الحذر المنهجي الذي يلازم بعض المتبربرين (Berbérisants) حيث يشير يعضهم أنّ : "… مفهوم اللغة الأمازيغية السائد هو أنّها لغة أهلية،وهي اللغة الأهلية الوحيدة منذ ما قبل التاريخ،والواقع أنّ اللغة الأمازيغية لم تكن أبدا لغة دخيلة،ولم نجد في تاريخ بلاد البربر إشارة إلى ظهور واختفاء لغة أهلية(16).
لا تزال النقوش الليبية رغم قرن من الأبحاث وعدد هامّ من الباحثين لم تُفَكّ –في قسم منها- نصوصها، مثلما أشار إليه الباحث سالم شاكر (1973) رغم امتلاك الباحثين لعدّة امكانيات مساعدة، مثل: الكتابات المزدوجة البونية-الليبية، واللاتينية-الليبية، ومعرفة البنية الحالية للّغة، وكلّ المعطيات التاريخية: أسماء الأماكن والأشخاص، شهادات المؤلّفين العرب… التي تؤكّد انتماء وانحدار الأمازيغ من الليبيين .
نأخذ الحجّة السلبية التي دحضها باسي Basset، ونتساءل إلى أيّ درجة يمكن أن نحدّد المسألة لو أنّ الليبي ليس الشكل القديم للأمازيغي ومنه نصل إلى أنّنا لا يمكن أن نعرف متى وكيف تكوّنت اللغة الأمازيغية.
تفسّر أسباب الفشل المتعلّق بالدراسات الليبية ببساطة في أنّ المتبربرين قليلون وهم مهتمّون بجرد مختلف اللهجات الأمازيغية المحلّية، ولم يركّزوا بعد على اللغة الليبية، ويعتبرون أنّ كتابتها المقولبة غير ذات أهمّية،أمّا الهواة أو الجامعيون غير المتبربرين المهتمّين بالنصوص الليبية بسبب قيمتها التاريخية أو الأثرية فإنّهم غير مزوّدين بوسائل البحث في هذا المجال، وفي الأخير فإنّ المنظومة الكتابية الليبية الخالية من الحروف الصويتة (Voyelles) لا تساعد الباحث على إعادة التركيب الكامل للغة .
لقد كان تصنيف اللغة الأمازيغية ضمن عائلة لغوية مجاورة مبكّرا، ونستطيع القول أنّ ذلك قد تمّ منذ شامبوليون (1838) وقد حدّد فنتور دو بارادي (Venture de Paradis) قرابتها باللغة المصرية القديمة في كتابه: معجم اللغة البربرية (Le Dictionnaire de La Langue Berbère) ، كما قد عمل عدد أكبر على إقامة الدليل على قرابتها باللغات السامية ، وانتظرنا تقدّم الدراسات عن السامية القديمة ليقترح م. كوهين (M. Cohen) في 1924 إلحاق الأمازيغية بعائلة اللغات المسمّاة : حامية-سامية (Chamito sémitique) التي تضمّ المصرية (والقبطية التي هي الشكل الحديث للمصرية القديمة) والكوشية والسامية ، وكلّ مجموعة من هذه المجموعات اللغوية لها أصالتها ، ولكن لكلّ منها قرابة بالأخرى كما يرى كوهين والباحثون الذين جاؤوا من بعده(17).
إنّ هذا التوازي لا يقوم على مجرّد مقارنات معجمية،بل يدرس بنية اللغة مثل منظومة الأفعال والتصريف،والأصل الثلاثي للكلمة ، في حين أنّ الكثير من الكلمات في الأمازيغية ذات جذر من حرفين فقط ، وقد أرجع البعض ذلك إلى مجرّد حذف فوني وهو كثير في الأمازيغية، كما لاحظ كلّ المختصّين، وهذه "التعرية" الصوتية ظاهرة ملفتة تجعل من الصعوبة إقامة مقارنة معجمية باللغة السامية وهو ما يجعل طروحات الأصول السامية متجاوزة الآن ، وذلك ما أغفله المتبربرون(18) في السابق، ومهما يكن فإنّ القرابة الملحوظة داخل المجموعة الحامية - السامية بين الأمازيغية والمصرية والسامية ، تؤكّد بعض المعطيات الأنثروبولوجية التي تدعّم فكرة تفرّع الأصول البعيدة للأمازيغ والفراعنة عن أصل واحد مشترك .
تقوم في أفريقيا الشمالية اليوم دول ترفع شعار الانتماء المزدوج إلى الأمّة الإسلامية وإلى العالم العربي بالتساوي، وهذه البلاد بعد تقلّبات الزمن وتوالي الأحداث – ظلّت إلى نهاية القرون العتيقة منتمية بالتأكيد إلى العالم المسيحي وإلى الأمّة اللاّتينية – ها هي تتحوّل تحوّلا ثقافيا جذريا مع أنّ هذا التحوّل لم يرافقه تحوّل عرقي هامّ فالشعب هو الشعب، وهؤلاء الأمازيغ الذين كان البعض منهم يظنّ أنّه روماني هم أنفسهم الذين يشعر أغلبهم اليوم أنّهم عرب.
كيف يمكن تفسير هذا التحوّل الذي يبدو عميقا ودائما في بعض الجهات الشمال أفريقية، مع أنّه لم يشمل كلّ البلاد، إلى درجة أنّ بعض الجهات التي تجذّر فيها الإسلام تماما لا تعتبر نفسها عربية بل وتطالب اليوم بترسيم ثقافتها الأمازيغية ؟ (19).

ينبغي في المقام الأوّل التمييز ما بين الإسلام والعروبة (Arabisme) ومع أنّ الفكرتين إحداهما دينية والآخرى عرقية سوسيولوجية إلاّ أنّهما قريبتان من بعضهما، لأنّ الإسلام ظهر بين العرب ونشر من طرفهم في البداية، ولكن يطرح إشكال آخر هو كيف نفسّر وجود شعوب عربية أو مستعربة في الشرق الأدنى استمرّت على مسيحيتها، وبالمقابل هناك عشرات الملايين من غير العرب ولا حتّى من المستعربين: الزنوج، الأتراك، الإيرانيون، الأفغان، الهنود … ولكنهم من أشدّ المسلمين تمسّكا بالإسلام مع تمسّكهم أيضا بلغاتهم وهوياتهم القومية، ألم يكن في إمكان الأمازيغ - على غرار الفرس والأتراك - أن يكونوا مسلمين وأن يحتفظوا في نفس الوقت بثقافتهم وشخصيتهم كما هي، بل ويحتفظون كذلك بلغتهم ونظمهم الاجتماعية، لعلّ ذلك كان سهلا لأنّهم كانوا أكثر عددا من بعض الشعوب التي حافظت على هويتها ضمن الأمّة الاسلامية خاصّة وأنّهم أبعد عن مركز الإسلام الأول ؟ (20).
كيف يمكن أيضا تفسير أنّ المقاطعات التي كانت قد تمسّحت تماما مثل باقي مقاطعات الإمبراطورية الرومانية وكانت لها كنائس رائدة، تُسْلِم تماما، في حين تستمرّ شعوب على أبواب بلاد العرب(Arabie) على مسيحيتها: الأقباط في بلادالنيل والموارنة في لبنان والنسطارة واليعاقبة في سوريا والعراق؟، وللإجابة على هذه التساؤلات ينبغي أن يعود المؤرّخ إلى ما وراء الأحداث، فالفتوحات العربية في القرن السابع قد أسلمت البلاد حقّا ولكن لم تعرّبها، فالتعريب تمّ في مراحل لاحقة وعلى امتداد قرون وهو مستمرّ ولم ينته بعد، لأسباب عميقة جدّا، والواقع أنّه منذ الفتح العربي يبدأ سيناريو من نوع آخر(21).
احتلّت روما أفريقيا، وترومنت المقاطعات التي أقامتها بها: أفريقيا ، نوميديا والموريتانيات الثلاث، بدرجات متفاوتة، وكانت أفريقيا ونوميديا على الخصوص آهلتين بالسكّان وفيهما عمران مزدهر(22)، وكانت المقاطعات الموريتانية في المقام الثاني ولم يتجاوز فيها الاحتلال الروماني المنطقة التلّية، أمّا في نوميديا وإقليم طرابلس فكان التوسّع الروماني قد وصل أعماق الصحراء ، ولذلك ستنتقل الانتفاضات الأمازيغية منذ القرن الأوّل الميلادي إلى موريتانيا بعد أن تمّ إخضاع المقاطعات الأخرى تماما .
لا ريب أنّ روما نجحت خلال أربعة قرون بفضل منظومة معقّدة من استحكامات خطّ الليمس في مراقبة تنقّل السكّان إلى التلّ وإلى المناطق المستزرعة، وكان ذلك نظاما راسخا يتوفّر على خنادق وأسوار تسدّ المعابر وعلى قلاع حراسة تعلو المرتفعات،ومزارع محصّنة وحاميات في الحصون وقد عثر روبيفا(Rebuffat) الذي نقّب في أحد معسكرات الليمس (بونجم في إقليم طرابلس) على أرشيف عبارة عن شقوف(Tessons) بسيطة أشير فيها إلى أحداث صغيرة في عدّة كلمات هي:عبَر عدد من الغرامنت في مهمّة يسوقون حميرا (Garamantes ducentes asinus…)، فمنذ القرن الثاني كان الغرامنت يجلبون سلعا رومانية مثل: الجرار والمزهريات الزجاجية والحلي إلى قصورهم النائية في الفزّان،كما أنّ هناك أضرحة لأمراء وأعيان جرمة( ) (Djerma, Garama) عاصمة الغرامنت، قام معماريون رومان بتشييدها، وكان هناك جنود ومساعدون يجوبون الطريق الممتدّة من المقاطعة الرومانية إلى عمق بلاد الغرامنت،وكانت تلك الطريق مزوّدة بصهاريج المياه ومراكز عسكرية تمتدّ حولها مزارع صغيرة لتأمين حاجتها من الغذاء .
بعد ثلاثة قرون من ذلك ينهار الاحتلال الروماني بسبب اعتماده سياسة القهر والاستغلال في حقّ الأهالي، وهي السياسة التي ثار ضدّها الشعب الأفريقي وتتحوّل تلك الصحراء الهادئة إلى ألسنة لهب يخرج منها محاربون شرسون نحو المقاطعات الرومانية،هم اللواتاي (Levathae) الذين سمّاهم العرب: البتر (El Botr) ثمّ سمّوهم بعد ذلك: لواتة ، وهم بدو جمّالة قدموا من قورينائية وخاضوا مقاومة عنيفة ضدّ البيزنطيين بقيادة زعيمهم كاباوون (Cabaon) جنوب المزاق (Byzacene) ، ولكنهم اندمجوا نهائيا في هذه المناطق الجديدة ، وانضمّوا إلى متساكنيهم الجدد الذين جمعتهم بهم مقاومة البيزنطيين وانخرطوا في العمل الفلاحي واستمرّ الازدهار في البلاد إلى عشية الفتح العربي حيث وجد الفاتحون بلادا مزدهرة،وخاصّة غابات الزيتون التي لا تزال آثار معاصر الزيت تدلّ على ازدهارها في بلاد هي اليوم جافّة وقاحلة.
آليات الاستعراب
إنّ العامل الثاني الذي أدّى إلى انقلاب جذري في البنية السوسيولوجية لأفريقيا الشمالية هو الفتح العربي، فقد يسّر ضعف البيزنطيين -الذين دمّروا مملكة الوندال- ذلك الفتح، غير أنّ أفريقيا البيزنطية لم تكن مثل أفريقيا الرومانية، فقد وجد البيزنطيون بلادا كانت مسرحا للفوضى على امتداد قرنين، واجتمعت عليها عوامل عديدة دمّرتها اقتصاديا واجتماعيا منذ نزول الوندال بها (429) ولم تكن مملكة الوندال تتجاوز تونس الحالية وجزءاً صغيرا من شرق الجزائر الحالية، يحدّه غربا وجنوبا إقليم قسنطينة، والأوراس الذي استقلّ تحت حكم قبلي محلّي.
منذ نهاية حكم تراساموند (Thrasamond) [حوالي 520]، دخل رحّل زناتة (Les Zénètes Nomades) إلى المزاق (Byzacene) تحت قيادة ملكهم كاباوون (Cabaon) ومنذئذ سيفرض هؤلاء على الوندال ثمّ البيزنطيين من بعدهم حالة الدفاع ضدّ هجومات أولئك الزناتيين ويروي لنا آخر كاتب أفريقي باللاتينية وهو كوريبوس (Corippus) في ديوانه : JOHANNIDE المعارك التي كان على رأسها القائد البيزنطي حنّا تروغليتا( Jean Troglita ) ضدّ تلك القبائل الزناتية الشرسة، الحليفة للموريين في الداخل، فلقد كان بربر لواتة هؤلاء (Laguantan = Levathae = Louata ) على وثنيتهم يعبدون إلها في شكل ثور يسمّى قورزيل (Gurzil) وإله حربي هو ( Sinifère)، وكانت جمالهم تنفّر خيول الفرسان البيزنطيين، وكانوا يحاربون فوق جمالهم ومعهم نساؤهم وأطفالهم خلال تنقّلاتهم في السلم والحرب .
كان باقي أفريقيا الذي يسمّيه كورتوا (C. Courtois) أفريقيا المنسية، يتمثّل في الموريتانيات الثلاث –التي كانت على ما يبدو- تعيش في ظلّ حكم قبلي،ولا نعرف عنها خلال القرنين الأخيرين إلاّ بعض أسماء القادة، وبعض الأوابد الجنائزية [الجدّاراتDjeddars قرب فرندة، ضريح الغور (Gour)قرب مكناس] ونقوش ماستياس (Masties) في أرّيس الذي أعلن نفسه ملكا، وماسونا (Masuna) في آلطاوة (Altava) الذي أعلن نفسه أيضا ملكا على الشعوب المورية والرومانية ومن خلال بحثنا في ثنايا النصوص التي تركها مؤرّخون مثل بروكوب(Procope) وفي بعض النقوش نستخلص بأنّ الاستقرار لم يكن متوفّرا حتّى في تلك المقاطعات " المحرّرة " .
كانت النزاعات الدينية سببا آخر للفوضى، ولم تكن أقلّ شراسة من مثيلاتها في الشرق، فقد قاومت الكنيسة النحل المنشقّة عنها مثل الدوناتية، فأضعفها ذلك، وكان الاضطهاد الديني فظيعا خلال الحكم الوندالي ولا يعادله إلاّ اضطهاد ديوكليتيانوس للمسيحيين الأوّلين لأنّ الوندال جعلوا مذهبهم (الأريوسي) مذهبا رسميا،وإذا كانت الأرثوذكسية قد استرجعت بعض الطمأنينة منذ عهد هلديريك (Childéric) فإنّ الكنيسة الأفريقية كانت تعاني الضعف كما يبيّن مجمع 525، بعد وفاة القدّيس أوغسطين، فقد اختفت عدّة أبرشيات، وأدت الخصوصيات الإقليمية إلى تكريس الانقسام، في غياب الامبراطورية(23).
كان "الاسترداد" البيزنطي قد جلب الخراب إلى المنطقة ، فقد أدخل إلى أفريقيا النزاع حول طبيعة المسيح، ومنذ يوستينيانوس تبدأ الفترة البيزنطية في أفريقيا،وهو الامبراطور الذي حاول تهدئة الأوضاع وإنهاء النزاع والجدل الديني، فحوكمت الطبيعة الواحدة واعتبرت هرطقة جديدة، وفي الوقت الذي بدأ فيه الفتح العربي يبدأ نزاع جديد في عهد الامبراطور كونسطان الثاني (Constant II) وهو النزاع الذي مزّق أفريقيا المسيحية (648) وفي نفس الوقت نمت التعقّدات السوسيولوجية وبالتالي العرقية ، فهناك الأفاريق أو الأمازيغ المترومنون في المدن والأرياف وحتّى في عمق البلاد أحيانا، كالمجتمع الريفي الذي تعرّفنا عليه بفضل ألواح ألبيرتيني (Tablettes d Albertini) وهو أرشيف توثيقي منقوش على ألواح من الأرز عثر عليه بجهة تبسّة،وهناك المور(Maures) غير المترومنين المنحدرين من قدامى البربر (Paléoberbères) يضاف إليهم بدو زناتة (Zénètes) ولواتة وأشتات الوندال والجهاز العسكري والإداري البيزنطي وهو من الشرقيين الأغارقة والسوريين ، هذا المجتمع أصبح تدريجيا منقسما إلى إمارات محدودة في بلد غير منظّم وممزّق ومفقّر ، وفي هذه الظروف ظهر الفاتحون العرب.
نعرف أنّ الفتح العربي لم يكن محاولة استعمارية أي لم يكن استيطانا بل كان في شكل سلسلة عمليات عسكرية لا غير، وفيها اختلط الميل إلى الحصول على الغنائم مع روح تبشيرية، كما أنّها لم تكن نتيجة بطولة مسحت كلّ من يعترضها بحدّ السيف كما تصوّرها الكتب المدرسية.
توفّي النبي (ص) في 632، وبعد عشر سنوات كانت جيوش الخليفة تخضع مصر وقورينائية (انطابلس تحريف لبنطابوليس) وفي 643 دخلت تلك الجيوش إقليم طرابلس يقودها عمرو بن العاص، وبعده قام ابن سعد (ابن إبي سرح) بالإغارة على جنوبي إفريقيّة(تحريف عربي لـ:أفريكا) في وقت كانت فيه علاقة البيزنطيين بالأمازيغ في اضطراب، وكانت تلك الغارة تستهدف ثروة البلاد وتستفيد من ضعفها، ويصف المؤرّخ النويري كيف أنّ عربيا بسيطا ومسلّحا بسلاح بسيط من قبائل بدوية ينطلق من المدينة في أكتوبر647 في فيلق لا يتجاوز5000 رجل، أضاف إليه ابن سعد حاكم مصر 15000 فأصبح معه 20000 وهو عدد الجيش الإسلامي الذي سيحارب البيزنطيين في معركة سبيطلة (Suffetula)حيث قتل القائد البيزنطي غريغوار ونهبت البلاد،وأخذ الفاتحون غرامة ثقيلة من المدن الأفريقية البيزنطية،وانسحبوا راضين عن النتيجة التي حقّقوها(648)إذ لم يكن للعملية هدف غير الذي حقّقته ودامت14 شهرا.
إنّ الفتح الحقيقي حدث في عهد معاوية الذي عيّن على رأس جيش إفريقيّة معاوية بن حديّج في 666 وبعد ثلاث سنوات من ذلك التاريخ أسّس عقبة القيروان، أوّل مدينة إسلامية في الشمال الأفريقي وحسب النصوص العربية على اختلافها وتعدّدها فإنّ عقبة خلال ولايته الثانية ضاعف الهجومات غربا واحتلّ لمباز Labaesis (تازولت) التي كانت في وقت مضى قاعدة الفيلق الثالث وعاصمة نوميديا العسكرية الرومانية، ثمّ قصد بعد ذلك تاهرت قرب تيارت الحالية ، ثمّ واصل إلى طنجة حيث وصف له يوليان بربر السوس (الجنوب المغربي) "بأنّهم شعب بلا دين يأكلون الجثث ويشربون دماء حيواناتهم ويعيشون مثل الحيوانات لأنّهم لا يؤمنون بالله ولا يعرفونه"، فقصدهم عقبة وسحقهم وسبى نساءهم وكنّ أجمل نساء الأرض، ثمّ دخل البحر بحصانه قائلا كلمته التي ذكرتها النصوص العربية: ياربّ ، لو أنّي أعرف أنّ وراء هذا البحر … إلخ.
إنّ هذه النصوص لا تخلو من جانب أسطوري، وتضاف لها نصوص أخرى تجعل عقبة وصل إلى الفزّان قبل الذهاب إلى المغرب، وفي مسيرته إلى المغرب أخذ معه زعيم قبيلة أوربة البرنسية وهو كسيلة أسيرا، وأساء معاملته ممّا جعله وهو حديث عهد بالإسلام يثأر لكرامته ويسحق عقبة ومن معه خلال عودة هذا الأخير، جنوبي أوراس، ومن هناك يزحف كسيلة إلى القيروان ويحتلّها فينسحب من بقي فيها من جند الفاتحين إلى قورينائية (برقة)، وتتوالى الحملات العربية ويقتل كسيلة في إحداها،وفتح المسلمون قرطاج(693) وتأسّست تونس في 698 ولكن المقاومة لم تتوقّف،فقد قادتها امرأة من قبيلة جراوة (Iguerrouyen)( ) من المجموعة الزناتية المتمركزة في أوراس تسمّى ديهيا، اشتهرت بالاسم الذي روّجت له المصادر العربية وهو الكاهنة، وقتلت وهي تقاوم (700) وكان ذلك آخر مقاومة أمازيغية مسلّحة ضدّ الفاتحين، والواقع أنّه في 711 عندما عبر طارق المضيق الذي عرف باسمه لفتح اسبانيا، كان جيشه مكوّنا في الأساس من الأمازيغ (المور( ) Maures)، والخلاصة أنّ الفاتحين كانوا قلّة ولكن لم يجدوا أمامهم تعبئة دينية مناقضة تقاوم اكتساحهم بل وجدوا مجرّد "معارضين" تباعا : البطريق البيزنطي ثمّ القادة الأمازيغ ،إمارات وممالك ، قبائل ثمّ تحالفات قبائل أمّا العنصر الأمازيغي المترومن (الأفاريق) الذي كان داخل المدن الكثيرة، فلم تكن له على ما يبدو الفرصة ولا الإرادة في مقاومة الأسياد الجدد المبعوثين في مهمّة دينية ، ولم تكن الغرامة التي فرضها العرب عليهم (الخراج) أثقل ممّا كانوا يؤدونه للإدارة البيزنطية ، وقد بدت في شكل مساهمة في نفقات الحرب أكثر من كونها ضريبة قارّة ، أمّا عمليات السلب وجمع الغنائم التي قام بها فرسان الفتح فإنّها لم تكن لا أكثر ولا أقلّ احتمالا من تلك التي ظلّ المور(Maures) يقومون بدفعها على امتداد قرون للرومان والوندال والبيزنطيين ، وفتحت أفريقيا إذن ، ولكن كيف أسلمت وكيف استعربت؟.
لقد ذكرنا بأنّه ينبغي التمييز بين نشر الإسلام وفرض العروبة، والواقع أنّ الأوّل كان على وتيرة أسرع من الثاني ، فقد أصبحت بلاد البربر مسلمة في أقلّ من قرنين (السابع والثامن) في حين أنّها لم تستعرب نهائيا إلى اليوم على امتداد 14 قرنا ، بعد القرن الأوّل الذي شهد حملات الفتح العربي.
لقد كان نشر الإسلام هو التعريب الأوّل وكان ذلك في المدن ، فقد تمركز دين الفاتحين في المدن القديمة التي أخضعها المحاربون الموفَدون، ثمّ بعد ذلك الفقهاء الزائرون الذين تصدّوا لبثّ وشرح تعاليم الدين الجديد، وقد ساهم تأسيس المدن الجديدة لتكون مراكز دينية حقيقية مثل القيروان (670) وفاس (809) في ترسيم الإسلام في طرفي بلاد البربر .
إنّ تحوّل أمازيغ الأرياف من زناتيين وصنهاجيين وكتاميين... إلى الإسلام، يكتنفه الغموض، ولعلّ من الأكيد أنّهم كانوا مستعدّين لتقبّل التوحيد المطلق في الإسلام بسبب الجوّ الذي تكون قد هيّاته الديانات السابقة وعلى الخصوص المذهب الدوناتي الذي لا تشير المصادر إليه (24)، ولذلك يكون الإسلام قد بدا للأفريقيين كما بدا للمسيحيين الشرقيين في البداية في شكل أحد المذاهب المسيحية المنشقّة(25) أكثر من كونه دينا جديدا، ويفسّر ذلك بتعدّد الارتداد عنه الذي تحدّثت عنه المصادر العربية، ودون ريب فإنّ ذلك كان بسبب التقلّبات السياسية أكثر من أيّ شيء آخر، ولعلّ اعتناق رؤساء الاتحادات القبلية للدين الجديد في البدايات لأسباب سياسية في كثير من الأحيان أكثر من الاقتناع، أدّى إلى انتشاره بين العامّة، وكان تجنيد هذه العامّة في أعمال الفتوح بقيادة زعمائها القبليين أحد أقوى الأسباب في ترسيخ العقيدة الجديدة ، ولعلّ ممارسة أخذ الرهائن من بين أبناء رؤساء القبائل أحد الأسباب الأخرى ، فهؤلاء الرهائن ينشأون -في بيئة جديدة- على الإسلام واللغة العربية، وعند عودتهم إلى ذويهم يصبحون نموذجا بما تمنحه لهم ثقافة "أعلى" من بريق .
كان الدعاة الموفَدون من أبناء المذاهب المضطهدة في الشرق إلى الشمال الأفريقي، لأنّها كانت خطرا على المذاهب السنّية في القرون الأولى للإسلام، قد أسهموا في نشر الإسلام في صفوف القبائل خاصّة القبائل الزناتية، و"عزلوا" بعض الأمازيغ عن باقي المسلمين،وإذا كان المذهبان الصفري والإباضي قد تزعّما النزعة الاستقلالية للمسلمين الأمازيغ وخاصّة زناتة، فإنّ أتباعهما ظلّوا على الدوام قوّة دينية صغيرة ولكنّها نموذجية وصارمة في الإيمان وفي الأخلاق(26).
وفد على الشمال الأفريقي أيضا دعاة كبار لنشر المذهب الشيعي(27)،فقد كان الفقهاء وطلبة الدراسات الدينية يسافرون إلى أقاصي الأرض يتعلّمون ويلتقون كبار الفقهاء ويتكفّل بهم إلى أن يصلوا بدورهم أعلى مراتب الفقه، وقد يؤسّسون مذاهب خاصّة بهم، مثل ابن تومرت - مؤسّس حركة الموحّدين (1120) التي كانت قاعدة فكرية لإمبراطورية - وغيره.
الأمازيغ يعرّبون أنفسهم
كان الدعاة سعيا منهم للوصول إلى قلوب السكّان في الأرياف وفي المدن، يحرصون على الدوام على أن يجعلوا من الأمازيغ -الذين كان تديّنهم عميقا- حماةً للإسلام، وكانت الأربطة مثالا لذلك فهي أديرة وثكنات عسكرية في نفس الوقت،وقاعدة عمليات ضدّ الكفّار أو محرّفي الدين، ويمكن أن يشيّد الرباط داخل البلاد مثل رباط تازة أو على الساحل، وباختصار في أيّ مكان يستدعي الدفاع عن الإيمان. لقد كان أولئك الجنود-الرهبان يقيمون في تلك الأبراج يتدرّبون على القتال ويتعلّمون أصول الدين بصرامة، وكان القرن التاسع العصر الذهبي للأربطة في أفريقيا حيث تعدّدت الأربطة من طرابلس إلى بنزرت وخاصّة على ساحل المزاق ، وأشهرها رباط المنستير الذي بني في 796 ورباط سوسة (821) وفي الجهة الأخرى من المغرب على الساحل الأطلنطي بنيت أربطة لضمان الدفاع عن الإسلام عسكريا ومذهبيا ضدّ حملات النهب النورماندية وضدّ الهرطقات الدينية كالتي ظهرت في قبيلة برغواطة (28).
كان أحد هذه الأربطة من تأسيس – في وقت متأخّر – الموحّدي يعقوب المنصور، وسيصبح عاصمة المملكة الشريفية والذي احتفظ باسم الرباط العاصمة الحالية للمملكة المغربية، وكانت أصيلا شمالا وآسفي وقوز وخاصّة ماسات (Massat) جنوبا تكمّل الدفاع الساحلي في المغرب الأقصى(29).
كان المرابطون عبّادا وأهل صلاة، ومصلحين ذوي فعالية، وكان هؤلاء من قبيلتي لمتونة وقزولة (Guezoula) الصنهاجيتين من الصحراء الغربية(30) تحت القيادة الروحية لعبد الله بن ياسين الذي أسّس رباطا في جزيرة بالسينغال، وكان في بداية القرن الحادي عشر مبدأ الإمبراطورية المرابطية، أمّا في المناطق غير المهدّدة ، فقد فقد الرباط طابعه العسكري ليصبح مقرّ رجال الدين الموقّرين، وقد ظهرت بسبب ذلك إخوانيات(Confréries) "مقلّدة" للأنظمة الدينية المسيحية (Ordres Religieux) وهي تبدو الآن في شكل مراكز للدراسات الدينية (زوايا) وهي وريثة للأربطة القديمة واختلطت هذه الحركة أحيانا بالتصوّف الشعبي (Maraboutisme) وقد لعبت الحركة المرابطية دورا كبيرا في أسلمة (Islamisation) الأرياف مع الإبقاء على بعض الممارسات العقائدية السابقة للإسلام التي لا تضرّ بالإيمان (31) .
لقد أكملت هذه الزوايا أسلمة المناطق النائية من بلاد البربر والتي دخلها الإسلام متأخّرا وليس ضمن مجموعات الأمازيغ الجبليين المستقرّة التي لعبت دورا هامّا في الإسلام الشمال أفريقي مثل كتامة في القبائل الشرقية (Kabylie Orientale) ومصمودة في الأطلس المغربي، بل عند كبار الرحّل في الهقار البعيد وفي الصحراء الجنوبية، ولعلّ إسلام التوارق كان بفعل دعاة وصلوا بلادهم منذ القرن الخامس عشر لا غير، أمّا الغريب فهو أنّ هناك بلدا أمازيغيا لم يسلم أبدا وهو جزر الكناري الذي بقي سكّانه الأصليون على الوثنية إلى الغزو النورماندي والاسباني خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر .
لم يمح إسلام الأمازيغ نهائيا آثار المسيحية في أفريقيا،وقد أشار بعض المؤرّخين والجغرافيين العرب إلى استمرار وجود كنائس أفريقية عدّة قرون بعد الفتح العربي وهو موضوع اهتمّ به المؤرّخون أخيرا، فالملاحظ أنّ الممالك الأفريقية التي تكوّنت خلال الاحتلال الوندالي والبيزنطي كانت في أغلبها مسيحية، وقد صرّح الملك ماستياس بمسيحيته وأشار ملك الأوكوتاماني (Ucutamani) [كتامة في الكتابات العربية] إلى أنّه خادم الله (Servus Dei) وكان بناة أضرحة الجدّار قرب فرندة مسيحيين أيضا، مثل الملك مازونا (ملك المور والرومان) في موريتانيا حوالي 508، ومثله الملك ماستياس الذي سكّ عملة حوالي 535 ، أمّا الوثنية فقد بقيت بين الرحّل الذين كانوا يعبدون الإله قورزيل، وتدلّ كلّ المعطيات على أنّ قسما كبيرا من قدامى البربر في المقاطعات الرومانية القديمة كانوا قد تنصّروا في القرن السادس، دلّ على ذلك آثار الكنائس في المدن، وكذلك المقابر والكتابات الجنائزية وخاصّة في وليلي (Volubilis) التي تعود إلى النصف الأوّل من القرن السابع (595-655) وآلطاوة التي تعود إلى القرن الخامس ومثلها في بوماريا وآلبولاي (Albulae) التي كانت ضمن مملكة ماسونا، ولا نريد هنا أن نخلص إلى أنّ سكّان المدن وحدهم هم الذين تنصّروا، فلقد كانت لقرى ومدن صغيرة في نوميديا كنائسها،وهناك نصوص تشير إلى عدد هامّ من الأمازيغ المسيحيين في القرن السادس [حوالي 570] مثل نصّ حنّا بكتار (Jean de Bictar) الذي يشير إلى تنصّر الغرامنت والمكّوريين(Maccurites)، كما أنّ البكري سجّل أنّه في العصر البيزنطي كان الأمازيغ على دين المسيح، واتّضح للمؤرّخين الآن بأنّ بقاء طائفة من المسيحيين في صميم الفترة الإسلامية عدّة قرون هو من الحقائق الأكيدة، فقد دلّت عليها نقوش القيروان التي تعود إلى القرن الحادي عشر،وكذا كتابات مقبرة عين زارة في إقليم طرابلس،كما أشار لويكي (LEWIKI) إلى استمرار وجود طائفة مسيحية ضمن المملكة الإباضية في تاهرت أوّلا ثمّ في وارجلان، وأبرشية في قسطيلية في الجنوب التونسي،وقد احتفظت المستشارية الحبرية بمراسلة البابا غريغوار السابع إلى أساقفة أفريقيين في القرن العاشر،وكانت الاحتفالات بالأعياد المسيحية قائمة في العهد الزيري، كما أشار البكري إلى وجود مسيحيين وكنيسة في تلمسان خلال القرن العاشر، كما وجد ما يدلّ على حجّ المسيحيين إلى شرشال القيصرية،كما أشار بعض الكتّاب إلى استمرار اللاتينية والمسيحية بأفريقية .
يبدو أنّ اختفاء آخر طائفة مسيحية تمّ في القرن الثاني عشر،ويبدو أنّ ذلك الاختفاء لم يكن طبيعيا بل كان نتيجة اضطهاد، فقد كان الخلفاء الموحّدون غير متسامحين، فبعد استيلائهم على تونس خيّر عبد المؤمن المسيحيين واليهود بين اعتناق الاسلام أو الموت بالسيف وفي نهاية القرن الثاني عشر كان حفيد عبد المؤمن: أبو يوسف يعقوب المنصور يفتخر بأنّه لم تبق في دولته كنيسة مسيحية واحدة(32).
اتّخذ التعريب مناحي عديدة، فقد كانت الأرضية مهيّاة له بوجوب نطق العديد من المفردات باللغة العربية لإعلان الانضمام إلى الإسلام، وكان التعريب خلال الفترة الأولى [القرن السابع إلى القرن الحادي عشر] لغويا وثقافيا وفي الأساس حضريا أي داخل المدن، فقد احتفظت مدن مغاربية قديمة (ذات تأسيس إسلامي، كتونس وتلمسان وفاس…) بلغة كلاسيكية كتذكار لذلك التعريب الأوّل، تلك العربية الحضرية ذات التأثّر ببناء الجملة الأمازيغية نجدها أيضا عند سكّان الساحل التونسي والساحل القسنطيني (قبائل الحدرة) وأيضا عند الطرارة (مسيردة) وعند الجبالة في الريف الشرقي، وحسب جورج مارسي (G. Marçais) فإنّ هذه المناطق الساحلية كانت منفذا لعواصم جهوية مستعربة منذ أمد بعيد، ويمثّل هذا الوضع نتائج للاستعراب الأوّل (33).
لا نعرف في الواقع الامتدادات الجغرافية بدقّة لهذا الشكل القديم للاستعراب الشمال أفريقي، فالمناطق الداخلية الممتدّة من الجنوب التونسي إلى الصحراء الغربية وإلى سهول الجزائر الوسطى والمنطقة الوهرانية إلى المغرب ذات تعريب بدوي بسبب اختلاط العنصر البدوي الهلالي بالقبائل الزناتية في القرن الحادي عشر الشيء الذي أدّى إلى تعريب قسم كبير من الأمازيغ.
ينبغي لفهم الوصول المفاجئ للعشائر الأعرابية أن نعود إلى القرن العاشر خلال العهد الفاطمي، حيث كان بربر زناتة قد وسّعوا نفوذهم في السهول العليا على حساب إخوانهم بربر صنهاجة الذين احتفظوا بالمناطق الجبلية الساحلية في الجزائر الوسطى والشرقية،وكانت إحدى القبائل الجبلية وهي كتامة قد استقبلت داعية شيعيًّا [أبو عبد الله الصنعاني] الذي بشّر بمقدم المهدي (المنحدر من فاطمة وعلي؟) وتمركز هذا الداعية في تازروت (ميلة) ونظّم ميليشيا مؤلّفة من أوائل أنصاره ثمّ ذهب إلى موقع حصين شرقي البابور هو "إيكجان" وتبيّن أنّ هذا الداعية استراتيجي كبير،فتمكّن من احتلال سطيف وباجة وقسنطينة، وأصبح الشيعة في 909 سادة القيروان، فأعلنت الدولة الفاطمية بقيادة المهدي عبيد الله الذي نجا من سجن أمراء سجلماسة له، وخلّصته حملة كتامية يقودها الداعية أبو عبد الله من الأسر ودخلت به القيروان منتصرة في ديسمبر 909، وفي طريقها دمّرت كلّ المواقع الرافضة للتشيّع، ونجحت القيادة الفاطمية المنحدرة من عبيد الله في السيطرة لفترة على القسم الأكبر من أفريقيا الشمالية، لكن زناتة المعتنقة لمذهب مختلف قامت بحركة ثورية خطيرة قادها فقيه أباضي هو مخلد بن كيداد المسمّى في الكتب العربية صاحب الحمار(34)(أبو يزيد)، ولولا تدخّل صنهاجة بقيادة زيري بن منّاد لانقرضت السلالة الفاطمية، وقد حفظ الفاطميون الجميل لصنهاجة، وعندما فتحوا مصر تركوا حكم الشمال الأفريقي لزعيمها بولوكّين بن زيري (973).
بعد ثلاثة أجيال تخلّى الزيريون عن المذهب الشيعي،وأعلنوا الانفصال عن الفاطميين (1045) لأنّ الشعب الأمازيغي أخذ يرفض تدريجيا مذهبا فُرض عليه بالقوّة، وفضّل الولاء للخليفة العبّاسي في بغداد، ولمعاقبة هذه الحركة الانفصالية، قام الخليفة الفاطمي بتحريض عشائر الأعراب المشاغبة ومن يدخل ضمنها من مغامرين على التوجّه إلى الشمال الأفريقي(35)، وكان أولئك الأعراب يعيشون بداوتهم في ناحية ساييس (Saïs) في صعيد مصر، وبدأ الزحف الكبير بأعراب هلال متبوعين بأعراب سُليم، ووصل هؤلاء إلى إفريقيّة (1051) ورغم الطابع الأسطوري لهذه الحركة في "تغريبة بني هلال"،إلاّ أنّ ابن خلدون قدّم لنا معلومات مفصّلة (36)، ويبدو أنّ المغامرة استهوت الكثير أثناء الزحف الكبير بما في ذلك مجموعات من اليهود الرحّل رافقت هؤلاء البدو ودعّمت الطوائف اليهودية في الشمال الأفريقي التي يعود أهمّها إلى أصول زناتية.
لا ينبغي الاعتقاد أبدا بأنّ حركة هؤلاء الأعراب كانت مثل جيش زاحف يحتلّ كلّ مكان يصل إليه أو أنّ هذه العشائر قاتلت الزيريين وإخوانهم الحمّاديين أو أنّها دخلت في مواجهة بين عرب وأمازيغ ذات طابع قومي أو عرقي، بل إنّ الأعراب دخلوا الشمال الأفريقي وتمركزوا في المناطق الخالية من السكّان ثمّ استجمعوا قواهم لنهب المدن تباعا، وبعد النهب يتفرّقون بعيدا حاملين معهم الغنائم التي نهبوها، وأصبح هؤلاء يحترفون النهب والسطو وقطع الطريق، ولذلك لم يتوان الملوك الأمازيغ: زيريون وحمّاديون وأخيرا موحّدون ومرينيون من استغلال هذه الروح القتالية، واستعمال هذه القوّة "العسكرية" الجاهزة في أغراض شتّى وحتّى ضدّ بعضهم، وبالتدريج أخذ هؤلاء الأعراب يتوزّعون في الأرياف(37).









عرض البوم صور أبو آدم التونسي   رد مع اقتباس